عاجل
الأحد 07 يوليو 2024 الموافق 01 محرم 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

هل النقوط فى المناسبات دين واجب الرد أم هدية؟

هل النقوط دين واجب
هل النقوط دين واجب

هل النقوط واجب ودين يرد أم هدية؟ الأصل في النقوط أنه عادةٌ مستحبةٌ، مبناها على تحقيق مبدأ التكافل بين الناس عند نزول المُلِمَّاتِ أو حدوث المَسَرَّات، بأن يبذل إنسانٌ لآخَر مالًا -نقدًا أو عَيْنًا- عند الزواج أو الولادة أو غيرهما مِن المناسبات، وذلك على سبيل المسانَدَة وتخفيف العبء أو المجامَلة، ويُرجَع عند النزاع بين أطرافه في كونه دَيْنًا واجب الأداء مَتَى طُولِب به، أو هبةَ ثوابٍ يُرَدُّ مِثلُها في مناسبةٍ نحوِها للواهب، أو هبةً محضةً يُستحب مقابلتُها بمِثلها أو أحْسَنَ منها مِن غير وجوب ولا إلزام، يُرجَع في ذلك كلِّه إلى أعراف الناس وعاداتهم التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ويَحكُمُ بها أهلُ الخبرة فيهِم.

 

حث الشرع الشريف على تقوية الروابط بين أفراد المجتمع


جاءت الشريعة الإسلامية بتوطيد الروابط الإنسانية بين أفراد المجتمع الواحد، بل بين الإنسانية كَكُلٍّ، فكان الأمرُ بالزكاةِ، والحثُّ على الصدقةِ، والنَّدبُ إلى التعاون، والترغيبُ في التآزرِ، والحضُّ على التهادي والتواهُبِ بين الناس، إذ إنَّ استقرار المجتمعات ونَهْضَتَها وتَفَوُّقَها لا يتحقق إلا إذا قَوِيَت روابطُ المَحَبة والإيثار بين أفرادها.

وتحقيق مبدأ التكافل بين الناس عند نزول المُلمّات أو حدوث المَسَرَّات يُعَدُّ أمرًا مطلوبًا شرعًا؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، والآية الكريمة فيها أمرٌ للمؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، والذي يشمل كلَّ وجوه الخير، كما في "تفسير القرآن العظيم" للإمام ابن كثير (2/ 12، ط. دار طيبة).

وقد أظهَر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا المعنى ورسَّخه بقوله: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه مِن حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ. متفق عليه مِن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، إلى غير ذلك مِن النصوص الواردة في هذا الباب.

 النقوط الذي يقدم في المناسبات من جملة التكافل والتعاون بين الناس


مِن جملة التكافل والتعاون بين الناس: ما يُقدِّمه بعض الناس لغيرهم من المال في المناسبات بصفة عامة، كالزواج والولادة ونحوهما، ويُعرَف هذا الفعل بين الناس بـ"النقوط".

وصورته: أن يبذل إنسانٌ مالًا لآخَر -نقدًا أو على هيئة شيءٍ عَيْنِيٍّ يُلائم المناسبة- عند العُرس أو الختان أو الولادة أو نحوها، وذلك على سبيل المجامَلة أو المساعَدة، بحيث إذا صار له نظيرُها انتَظَر رَدَّه عليه بمِثل ما بَذَله أو بنحوه، ويكون ذلك بإعطائه له مباشرةً يدًا بِيَدٍ، أو عن طريق متطوِّعٍ يَجمَعُ له النقوطَ ويَرُدُّه عليه، على حسب اختلاف الأماكن والطبائع والعادات.

والنقوط عادةٌ مستحبةٌ، تعارف الناسُ عليها منذ القِدَم، وعمِلوا بها في مختلف الأزمان؛ لما فيها مِن التقدير المادي والمعنوي فيما بينهم.

فأما التقدير المادي: فما يترتب عليها مِن تخفيف الأعباء المالية التي تُخَلِّفها مِثلُ هذه المناسبات، ومعاونة صاحبها وتلبية ما يحتاجه فيها مِن النفقات والطلبات، ومساندته.

وأما التقدير المعنوي: فما فيها مِن جبر الخواطر، والمواساة، وتأليف القلوب بين الناس، فإن القلوبَ مجبولةٌ على حُبِّ مَن يُحسن إليها، لا سيما إذا كان صاحب المناسبة في حاجة إلى مَن يكاتفه ويسانده ويقدره في مثل هذه الأوقات.

ومِن أجْل هذه المعاني وغيرها: لم تكن عادة النقوط مقصورةً على عوامِّ الناس دون غيرهم، بل عَمِلَها السلاطين والأمراء في مختلف المناسبات التي كانت تحدث لهم.

فمن ذلك: ما حكاه العلامة المَقْرِيزِي [ت: 845هـ] في "السلوك لمعرفة دول الملوك" (7/ 96، ط. دار الكتب العلمية) فقال: [خَتَنَ السلطانُ ولدَهُ الأميرَ ناصر الدِّين محمدًا، وعمل لختانه مهمًّا حَضَره الأُمراء، ثُم خَلَع عليهم، وأركَبَهُم خيولًا بقماش ذهب، وما مِنهم إلَّا مَن نَقَّطَ عند الخِتَان بمبلغ ذهب، فجمع النقوط، وصرف للمُزَيِّن مِنْهُ مائة دينار، وحمل البَقِيَّة إِلى الخزانة] اهـ.

وبنحو ذلك ذكر العلامة المؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدِي [ت: 874هـ] في "المنهل الصافي" (6/ 331، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب)، عند ذكر قصة ولادة الملك الصالح بن محمد بن قَلَاوُن، وما أغدق فيه مِن النقوط.

وعلى ذلك جرى العرف في مصر إلى يوم الناس هذا مِن غير نكير بينهم.

 

الحكم الشرعي للنقوط الذي يقدم في المناسبات وأقوال الفقهاء في ذلك


أما عن التكييف الفقهي للنقوط، فقد اختلف الفقهاء فيه على أقوال:

القول الأول: أن النقوط يعطى بقصد الثواب، والمقصود بـ"الثواب": أن يُعطي بقصد العِوض بالمثل أو الزيادة عليه، وذلك عند حصول نظير المناسبة التي أهْدَىَ فيها أو مثلها، فهو كهبة الثواب.

 

القول الثاني: أن النقوط هبةٌ محضةٌ أو هديةٌ، لا يَلزم الآخِذَ ردُّها، إلا إذا بَيَّنَ المعطي أنَّ عطاءه على سبيل القرض، ونَوَى ذلك، وصُدِّق على قوله.

 

القول الثالث: أن النقوطَ قرضٌ يجب سدادُهُ مستقبلًا، أي: أنه يصير دَيْنًا في ذمة الآخِذ، ويجب عليه أن يَرُدَّ مثله أو قيمته إلى المعطي، فَمَتَى طالَبَ المعطي به وَجَبَ رَدُّهُ إليه، ومقتضاه: أنه مِن جُملة الدُّيون المتعلقة بالتركة عند حصول الوفاة.

 

 الخلاف بين الفقهاء في التكييف الفقهي للنقوط

 

فيتحصَّل مما سبق: أنَّ الخلاف بين الفقهاء في التكييف الفقهي للنقوط، هل هو هبة ثواب، أو قرض، أو هدية محضة؟ مبنيٌّ على اختلاف العرف والعادة كما هو واضح مِن سياق النصوص، ومِن المعلوم أن الأعراف والعادات تتغير بتغيُّر الأماكن والبلدان والأشخاص والأزمان، ومِن ثَمَّ فقد قرَّر الحُكْمَ كلُّ فقيهٍ بما استقرَّ عليه العُرف في زمانه ومكانه، ووفقًا لِمَا اعتاده الناسُ في هذا الشأن وتَلَقَّوْهُ بالقبول، وكان سببًا لدوام هذه السُّنَّة الحَسَنَة فيما بينهم مِن غير نزاعٍ، ولا تبادُل لَوْمٍ ولا عِتَاب؛ فإن "العَادَةَ مُحَكَّمَةٌ، أَيْ: مَعْمُولٌ بِهَا شَرْعًا"؛ كما قال العلامة علاء الدين المَرْدَاوِي في "التحبير شرح التحرير" (8/ 3851، ط. مكتبة الرشد)، فإذا اضطرب العرفُ أفتى بما يقطع النزاع بِنَاءً على كثرة ما يُعرَض عليه منه وتَتَبُّعِهِ لأسبابه وأحوال الناس فيه، وهو ما قرَّره جماعةٌ مِن محققي المذاهب الفقهية المَتبوعة.

 

 

 

وقال العلامة خير الدين الرَّمْلِي [ت: 1081هـ] في "الفتاوى الخيرية لنفع البرية" (2/ 111، ط. الأميرية): [وسئل فيما يرسله الشخصُ إلى غيره في الأعراس ونحوها، هل يكون حُكمُه حُكمَ القرض فيلزمه الوفاء به، أم لا؟ أجاب: إن كان العرفُ بأنهم يدفعونه على وَجه البَدَل يلزم الوفاءُ به مثليًّا فبِمِثلِه، وإن قيميًّا فبقيمته، وإن كان العرفُ خلافَ ذلك، بأن كانوا يدفعونه على وَجه الهبة، ولا ينظرون في ذلك إلى إعطاء البدل، فحُكمُه حُكمُ الهبة في سائر أحكامه، فلا رجوع فيه بعد الهلاك أو الاستهلاك، والأصل فيه: أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.

 

وسئل فيما اعتاده الناس في الأعراس والأفراح والرجوع من الحج مِن إعطاء الثياب والدراهم، وينتظرون بَدَله عندما يقع لهم مثل ذلك، ما حكمه؟ أجاب: إن كان العرفُ شائعًا فيما بينهم أنهم يُعطُون ذلك ليأخذوا بدله، كان حُكمُه حُكمَ القرض، فاسدُه كفاسده، وصحيحُه كصحيحه؛ إذ المعروفُ عُرفًا كالمشروط شرطًا، فيطالب به].

 

 إعمال العرف في العلاقات الاجتماعية خير من إهماله


مِن المقرر شرعًا أن إعمال العرف في مِثل هذه المسائل التي تمس العلاقات الاجتماعية أَوْلَى مِن إهماله؛ لكونه الأنسبَ لحال البلاد والعباد، فيُنْظَرُ في ذلك باعتبار المكان والأشخاص والمقدار المقدَّم، ويحكم عليه بالمقاصد مع القرائن والأحوال، فإن جرى العرف على أنه يقدَّم كهبةٍ مجردةٍ أو هديةٍ، فلا يلزمه الرجوع به إلا من باب رد الإحسان بالإحسان، وليس على المعطي المطالبة بشيء منه؛ لأن الهدية لا يُسأل عنها ولا عن ردها، وإن كان العرف على أنه دَيْنٌ يلزم الآخِذَ رَدُّهُ للمعطي إذا حصل له نظيرُه، فعليه رَدُّهُ، وللمعطي المطالبة به عادةً، وإن كان العرف على أنه هدية للثواب، كان على الآخِذِ أن يجازي مَن أهدى إليه بِرَدِّ المثل أو الزيادة عليها أو النظير عند حصول أقرب مناسبةٍ للمعطي.

هذا؛ لأن الأعراف معتبرة في العقود، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، وأن العُرف هو أَحَدُ مَصادِرِ التشريع الإسلامي ما لم يَتعارض مع نَصٍّ مِن كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعٍ، إذ لا اجتهاد مع النَّصِّ؛ قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف: 199].

وجاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ" أخرجه الإمامان أحمد والطيالسي في "مسنديهما".

قال الإمام البَيْضَاوِي في "أنوار التنزيل" (3/ 46، ط. دار إحياء التراث): [﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ المعروف المستحسَن مِن الأفعال].

وقال الإمام ابن عَجِيبَة في "البحر المديد" (2/ 297، ط. دار الكتب العلمية): [﴿وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ﴾ أي: المعروف، وهو أفعال الخير، أو العرف الجاري بين الناس، واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعرف الذي يجري بين الناس] اهـ.

وقال العلامة ابن عابدين في "أُرجوزة عقودِ رَسْمِ المفتي" -كما في "رد المحتار" (3/ 147)-: [وَالْعُرْفُ فِي الشَّرْعِ لَهُ اعْتِبَارُ *** لِذَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ قَدْ يُدَارُ].

 

نصيحة دار الإفتاء المصرية في هذا الشأن


الذي تنصح به دارُ الإفتاء المصرية الناسَ أن يتكاتفوا ويتعاونوا في المَسَرَّات وعند نزول المُلِمَّاتِ ولو بالكلمة الطيبة، كما يستحب أن يكون العطاء بِسَخَاءِ نَفْس، فيقصد عند العطاء عمل الخير والمعروف ومساعدة الناس وإعانتهم في السراء والضراء ابتغاء مرضات الله، فتعمُّ المحبة بذلك وتدوم الألفة؛ تصديقًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» أخرجه الأئمة: البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى في "المسند"، والبيهقي في "السنن".

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَغَرَ الصَّدْرِ» أخرجه الأئمة: أحمد في "المسند"، والترمذي في "السنن"، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان".

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا» أخرجه الأئمة: الشهاب في "المسند"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وأبو نعيم في "الحلية".

قال العلامة أبو العلا المُبَارَكْفُورِي في "تحفة الأَحْوَذِي" (6/ 276، ط. دار الكتب العلمية): [وفي الحديث: الْحَضُّ على التهادي ولو باليسير؛ لما فيه مِن استجلاب المودة وإذهاب الشحناء، ولما فيه مِن التعاون على أَمْرِ المعيشة] اهـ.

كما يُراعَى أنَّ مَن أُهدِيَ إليه شيءٌ، فقدر على رد مثله أو نظيره، فينبغي له أن يسارِع في ذلك؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86].

قال الإمام السَّمَرْقَنْدِي في "بحر العلوم" (1/ 373، ط. دار الكتب العلمية): [يعني: إذا أُهدِيَ إليكم بهدية، فكافئوا بأفضلَ منها أو مثلها، وهذا التأويل ذُكِر عن أبي حنيفة] اهـ.

وقال الإمام ابن العَرَبِي في "أحكام القرآن" (1/ 591، ط. دار الكتب العلمية): [وظاهر الآية يقتضي رد التحية بعَيْنها، وهي الهدية، فإما بالتعويض أو الرد بعَيْنه] اهـ. أي: لمَّا أباح الشرع قبول الهدية، رَغَّب في رَدِّها والمكافأة عليها استحبابًا، مِن باب الفضل والامتنان، ورَدِّ الإحسان بالإحسان، لا على سبيل الوجوب والإلزام.

وعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".

قال العلامة الشَّوْكَانِي في "نيل الأوطار" (6/ 9، ط. دار الحديث): [«وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» أي: يعطي المهدِي بَدَلَها، والمراد بالثواب: المجازاة، وأقلُّه: ما يساوي قِيمةَ الهدية].

 

تابع موقع تحيا مصر علي