الإفتاء توضح حكم الطواف حول القبور.. وإتخاذ الأولياء والصالحين وسيلة إلى الله
ADVERTISEMENT
كثير من الصوفية حين يزورون أضرحة الأولياء والصالحين يطوفون حول الضريح، مما جعل عناصر التيار السلفي يزعمون أن الطواف حول القبور شرك بالله؛ فما حكم الطواف حول القبور؟ وهل كل الأفعال التي تصدر من عوام المسلمين تُحمل على والتبديع والتفسيق والشرك والكفر؟ وهل اتخاذ وسيلة إلى الله أمرٌ جائز أم محرم؟ وما الفارق بين الوسيلة والشرك؟
حكم الطواف حول القبور
وحول حكم الطواف حول القبور؛ قالت دار الإفتاء المصرية: إن الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم أن تُحمل على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، ولا يجوز المبادرة برمي المسلم بالكفر أو الشرك؛ لأن إسلامه قرينة قوية توجب حمل أفعاله على ما يقتضي السلامة منهما.
وهناك فارقًا كبيرًا بين الوسيلة والشرك؛ فالوسيلة مأمور بها شرعًا، وهي التقرب إلى الله تعالى بكل ما شرعه سبحانه، ويدخل في ذلك تعظيم كل ما عظمه من الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال، أما الشرك فهو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله.
وهناك فارق - أيضًا - بين كون الشيء سببًا، وبين اعتقاده خالقًا ومؤثرًا بنفسه؛ فهؤلاء المسلمون يزورون الأضرحة والقبور اعتقادًا منهم بصلاح أهلها وقربهم من الله تعالى، وأن زيارتها عمل صالح يَتقرب ويَتوسل به المسلم إلى الله تعالى، ولا يقصد أحدٌ منهم اتخاذَ القبر كعبةً يطَّوَّف به.
حمل أفعال المسلم على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد
وأوضحت دار الإفتاء، في معرض حديثها عن حكم الطواف حول القبور، أنه ينبغي أن نقدم أصولًا ثلاثة تجب مراعاتها عند الكلام في هذه المسألة وأشباهها؛ أولًا: أن الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم أن تُحمل على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، ولا يجوز أن نبادر برميه بالكفر أو الشرك؛ فإن إسلامه قرينة قوية توجب علينا ألا نحمل أفعاله على ما يقتضي الكفر، وتلك قاعدة عامة ينبغي على المسلمين تطبيقها في كل الأفعال التي تصدر من إخوانهم المسلمين، وقد عبر الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى عن ذلك بقوله: «من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا ويحتمل الإيمان من وجه حُمِل أمره على الإيمان».
والإخلال بهذا الأصل الأصيل هو مسلك الخوارج؛ حيث وضَّح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن هذا هو مدخل ضلالتهم فقال: «إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إلى آيَاتٍ نَزَلَتْ فيِ الكفار فجعلوها على المُؤْمِنِينَ» علَّقه البخاري في (صحيحه)، ووصله ابن جرير الطبري في (تهذيب الآثار) بسند صحيح.
الفارق بين الوسيلة والشرك
وأشارت دار الإفتاء، إلى أن الأصل الثاني؛ هو أن هناك فارق كبير وبَوْن شاسع ما بين الوسيلة والشرك؛ فالوسيلة مأمور بها شرعًا في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (المائدة: 35)، وأثنى سبحانه على من يتوسلون إليه في دعائهم فقال: «أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا» (الإسراء: 57).
والوسيلة في اللغة: المنزلة، والوصلة، والقربة؛ فجماع معناها هو: التقرب إلى الله تعالى بكل ما شرعه سبحانه، ويدخل في ذلك تعظيم كل ما عظمه الله تعالى من الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال؛ فيسعى المسلم مثلًا للصلاة في المسجد الحرام والدعاء عند قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم و(الملتزَم)؛ تعظيمًا لما عظمه الله سبحانه وتعالى من الأماكن، ويتحرى قيام ليلة القدر والدعاء في ساعة الإجابة يوم الجمعة وفي ثلث الليل الآخر تعظيمًا لما عظمه الله من الأزمنة، ويتقرب إلى الله تعالى بحب الأنبياء والأولياء والصالحين تعظيمًا لمن عظمه الله من الأشخاص، ويتحرى الدعاء حال السفر، وعند نزول الغيث، وغير ذلك تعظيمًا لما عظمه الله من الأحوال... وهكذا، وكل ذلك داخل في قوله تعالى: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ» (الحج: 32).
أما الشرك فهو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله تعالى، حتى لو كان ذلك بغرض التقرب إلى الله؛ كما قال تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى» (الزمر: 3)، وإنما قلنا: «على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله تعالى»؛ لإخراج كل ما خالف العبادة في مسماها وإن وافقها في ظاهر اسمها.
فالدعاء قد يكون عبادة للمدعوِّ «إِن يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا» (النساء: 117)، وقد لا يكون «لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا» (النور: 63)، والسؤال قد يكون عبادة للمسئول «وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ» (النساء: 32)، وقد لا يكون «لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (المعارج: 25)، والاستعانة قد تكون عبادة للمستعان به «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (الفاتحة: 5)، «قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا» (الأعراف: 128)، وقد لا تكون «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ» (البقرة: 45).
والحب قد يكون عبادة للمحبوب، وقد لا يكون، كما جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في قوله: «أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللهِ، وأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي» رواه الترمذي وصححه الحاكم... وهكذا، أي إن الشرك إنما يكون في التعظيم الذي هو كتعظيم الله تعالى؛ كما قال تعالى: «فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (البقرة: 22)، وكما قال سبحانه: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ» (البقرة: 165).
وبذلك يتبين لنا فَصْلُ ما بين الوسيلة والشرك؛ فالوسيلة نُعظِّم فيها ما عظمه الله، أي: إنها تعظيم بالله، والتعظيم بالله تعظيم لله، كما قال عز وجل: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (الحج: 32)، أما الشرك فهو تعظيم مع الله أو تعظيم من دون الله؛ ولذلك كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام إيمانًا وتوحيدًا وكان سجود المشركين للأوثان كفرًا وشركًا مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقًا، لكن لَمَّا كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام تعظيمًا لما عظمه الله كما أمر الله كان وسيلة مشروعة يستحق فاعلها الثواب، ولَمَّا كان سجود المشركين للأصنام تعظيمًا كتعظيم الله كان شركًا مذمومًا يستحق فاعلها لعقاب.
فإذا ما حصل خلاف بعد ذلك في بعض أنواع الوسيلة كالتوسل بالصالحين والدعاء عند قبورهم مثلًا، أو حصل خطأ فيها من بعض المسلمين فيما لم يُشرَع كونُه وسيلةً كالسجود للقبر أو الطواف به، فإنه لا يجوز أن ننقل هذا الخطأ أو ذلك الخلاف من دائرة الوسيلة إلى دائرة الشرك والكفر؛ لأننا نكون بذلك قد خلطنا بين الأمور وجعلنا التعظيم بالله كالتعظيم مع الله، والله تعالى يقول: «أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (القلم: 35-36).
حكم استعانة المسلم بغير الله
وتابعت دار الإفتاء: الأصل الثالث؛ أن هناك فارقًا بين كون الشيء سببًا، وبين اعتقاده خالقًا ومؤثرًا بنفسه؛ فإذا رأينا مسلمًا يطلب أو يسأل أو يستعين أو يرجو نفعًا أو ضرًّا من غير الله فإنه يجب علينا –قطعًا- أن نحمل ما يصدر منه على ابتغاء السببية لا على التأثير والخلق؛ لِمَا نعلمه من اعتقاد كل مسلم أن النفع والضر الذاتيين إنما هما بيد الله وحده، وأن هناك من المخلوقات ما ينفع أو يضر بإذن الله، ويبقى الكلام بعد ذلك في صحة كون هذا المخلوق أو ذلك سببًا من عدمه.
زيارة القبور عمل صالح يتقرب به المسلم إلى الله
وأوضحت دار الإفتاء، أنه إذا ما تقررت هذه الأصول الثلاثة فإنه يجب علينا استحضارُها في الكلام على حكم الطواف بالقبور، فإذا علمنا أننا نتكلم في أفعال تصدر من مسلمين، وأن هؤلاء المسلمين يزورون هذه الأضرحة والقبور اعتقادًا منهم بصلاح أهلها وقربهم من الله تعالى، وأن زيارة القبور عمل صالح يَتقرب ويَتوسل به المسلم إلى الله تعالى، وأن الكلام إنما هو في جواز بعض ما يصدر من هؤلاء المسلمين من عدمه، وأن في بعض أفعالهم خلافًا بين العلماء، وفي بعضها خطأً محضًا لا خلاف فيه؛ إذا علمنا ذلك كله فإنه يتبين لنا بجلاء أنه لا مدخل للشرك ولا للكفر في الحكم على أفعال هؤلاء المسلمين في قليل ولا كثير أو من قَبِيل أو دَبِير، بل ما ثَمَّ إلا الخلاف في بعض الوسائل والخطأُ المحضُ في بعضها الآخر من غير أن يستوجب شيءٌ من ذلك تكفيرًا لمن ثبت إسلامه بيقين.
وأكدت دار الإفتاء، أن إقحام الشرك والكفر في مسألة الطواف بالقبور لا وجه له، اللهم إلا على افتراض أن الطائف يعبد من في القبر، أو يعتقد أنه يجلب الضر أو النفع بذاته، أو يعتقد بأن الطواف بالقبر عبادة شرعها الله تعالى كما شرع الطواف بالبيت... وكلها احتمالات ينأى أهل العلم عن حمل فعل المسلم عليها كما سبق؛ لأن فرض المسألة في المسلم الذي يطوف بالقبر لا في غير ذلك.
ولا يجوز للمسلمين أن يشغلوا أنفسهم بمثل هذه المسائل ويجعلوها قضايا يحمل بعضهم فيها سيف الكلام على صاحبه، فيكون جهادٌ في غير وغًى، ويكون ذلك سببًا في تفريق الصفوف وبعثرة الجهود، ويشغلنا عن بناء مجتمعاتنا ووحدة أمتنا.