دار الإفتاء: التصوف من أصول الدين.. يقوم على تزكية النفس والوصول بها إلى مقام الإحسان.. وهذه شروط الشيخ المربي
ADVERTISEMENT
هل التصوف يخالف الكتاب والسنة (كما يقول البعض) وأن مصادره التي يستند إليها مصادر غير إسلامية؟ وهل ما يفعله الصوفية مجرد خزعبلات وبدع لا تمت إلى الشريعة الإسلامية بصلة؟ أم أن التصوف هو ذروة الإيمان وهو ميراث النبوة (كما يؤكد الصوفية)؟ وهل يمكن أن يأمر الشيخ الصوفي مريده بما يخالف الشرع؟
تزكية النفوس وترقيتها وتهذيبها
وأوضحت دار الإفتاء المصرية، أن من مهمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم المكلف بها من ربِّه جلَّ جلاله هو أن يقوم بتزكية نفوس المؤمنين، ويرقيها ويهذبها، ويبدل الصفات الذميمة بالصفات الحميدة، وذلك مصداقًا لقول الله تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» (آل عمران: 164).
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه التزكية على أكمل وجه، فبتزكيته لنفوس الصحابة رضي الله عنهم بلغوا الدرجات العلى، والمقامات السامية، وبلغ الكثير منهم درجة الكمال البشري؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» أخرجه البخاري في صحيحه.
تزكية النفس والوصول بها إلى مقام الإحسان
وأوضحت دار الإفتاء، أن علم التزكية علمٌ شرعي قائم على متابعة الكتاب والسنة، وهو من مهمات الأنبياء وورثة النبيين من بعدهم، ويهدف إلى تزكية النفس والوصول بها إلى مقام الإحسان الذي جاء في حديث جبريل عليه السلام الذي سأل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» متفق عليه، واللفظ لمسلم.
التصوف من أصول الدين
وأشارت دار الإفتاء، إلى أن الحديث السابق يُبين أصول الدين، وأنه بُني على أمور ثلاثة هي الإسلام والإيمان والإحسان، وقد اهتم الصحابة والتابعون من بعدهم بهذه الأمور الثلاثة، وقد اصطلحت الأمة بعد ذلك على تسمية العلم الذي يشرح أركان الإسلام بعلم الفقه، والعلم الذي يشرح أركان الإيمان بالعقيدة، والعلم الذي يشرح مقام الإحسان بعلم التصوف، حتى إنه قد اشتهر في عصور التابعين وأتباع التابعين علم التصوف.
فالتصوف هو السعي للوصول إلى درجة الإحسان، وعلامة هذه الدرجة أن تعبد الله كأنك تراه، ولا يمكن أن يتعارض الإحسان مع الإسلام، أو مع الإيمان، فالإحسان دائرة داخل دائرة الإيمان، والإيمان دائرة داخل دائرة الإسلام، وهذه الدوائر متداخلة، لا يمكن أن تتقاطع أو تتباعد أو تتعارض.
وأكدت دار الإفتاء، أن الصوفية اتفقوا على أن التصوف لا يوجد إلا بالتزام الشرع، وكانت عباراتهم في ذلك صريحة لا تحتمل التأويل؛ فقد قال الإمام الجُنَيد -إمام الصوفية- رضي الله عنه، فيما نقله الإمام السهروردي في (عوارف المعارف): «الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام»، وقال: «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة».
وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في (الطبقات الكبرى): «قال الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: إذا عارض كشفك الكتاب والسنة، فتمسك بالكتاب والسنة، ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة، مع أنهم أجمعوا على أنه لا ينبغي العمل بالكشف ولا الإلهام إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة... وقال أيضًا رضي الله عنه: إذا لم يواظب الفقير على الصلوات الخمس في الجماعة فلا تعبأن به... وقال أيضًا: كل علم تسبق إليك فيه الخواطر، وتميل إليه النفس، وتلذ به الطبيعة، فارمِ به وإن كان حقًّا، وخذ بالكتاب والسنة».
من هو الشيخ الصوفي؟
وأوضحت دار الإفتاء، أن الشيخ الصوفي المُربي هو من قطع طريق السلوك إلى الله تعالى، وأُذن له مِن قِبل شيخه بتربية المريدين، وتهذيب نفوسهم، وتنقيتها من أدرانها وشهواتها حتى تصل إلى طريق الهداية، وصراط الله المستقيم، ولا يجوز لأحدٍ أن يتصدر للتربية إلا بعد أن يقطع مراحل السير في طريق الله تعالى.
فالشيخ الصوفي عليه أن يعين المريد على ذكر الله، وعلى التفكر والتدبر في آيات الله تعالى، وعلى إصلاح النفس من العيوب، وشفاء القلب من الأمراض، كل ذلك في التزامٍ تامٍّ بالشريعة، ولا يعتقد طريقًا يوصل إلى الله يشتمل على مخالفة الشريعة.
ولا يجوز لـ الشيخ الصوفي، مخالفة الشرع بدعوى اختبار المريد، ومن يفعل ذلك لا يمكن أن ننسبه إلى التصوف؛ فالتصوف واضح وظاهر في التزامه بالكتاب والسنة وعدم خروجه على الشرع الشريف.
لماذا يتهم التصوف بمخالفته للكتاب والسنة؟
وأكدت دار الإفتاء، أن التصوف قد اتُّهِم بمخالفته للكتاب والسنة، ولعل من أسباب هذا الاتهام أن أقوامًا نظروا إلى ما أحدثه بعض مدعي التصوف، وظنوا أن ما يفعلونه هو التصوف، فقاموا في تسرع بغير روية، وبغير اطلاع على مبادئ التصوف وأقوال أئمته بإصدار الأحكام العامة مـما تسبب فيما نحن فيه، لذا كان أهل الله من الصوفية المخلصين يعتنون ببيان أن هذه المظاهر ليست هي التصوف.