دار الإفتاء: شد الرحال لزيارة قبور الأولياء «مشروع ومستحب» بإجماع العلماء .. «من أفضل الأعمال المُقربة إلى الله وتحريمها باطل»
ADVERTISEMENT
جدل كثير يُثار حول شد الرحال لزيارة قبور الأولياء والصالحين، وهل هذه الزيارة مشروعة ولها أصل في الشريعة الإسلامية، أم أنها بدعة كما يزعم دعاة التيار السلفي، وفي هذا السياق ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية، يقول السائل فيه: ما مدي مشروعية شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين؟
حكم شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين
وأوضحت دار الإفتاء، أن شَدَّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعموم الأنبياء والصالحين والأقارب من أفضل الأعمال، وأَجَلِّ القربات المُوصلة إلى المولى عز وجل، ومشروعيتُها محلُّ إجماعٍ بين علماء الأمة؛ لأنه الوسيلة الوحيدة لتحصيل المستحب وهو الزيارة، والقول بأنه حرام قولٌ باطلٌ لا يُعوَّل عليه ولا يُلتفَتُ إليه.
وأكدت دار الإفتاء، أن الحق الذي لا مِرْيةَ فيه هو أنَّ السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعموم الأنبياء والأولياء من أفضل الأعمال، وأَجَلِّ القربات المُوصلة إلى الله تبارك وتعالى، ومشروعيتُها محلُّ إجماعٍ بين علماء الأمة، وقد حكى الإجماع على ذلك القاضي عياض والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهما؛ فقال القاضي عياض في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى): «زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم سنةٌ من سنن المسلمين مُجمَعٌ عليها، وفضيلة مُرغَّبٌ فيها».
وقال الحافظ ابن حجر في كتابه (فتح الباري): «إنها من أفضل الأعمال وأجلّ القربات الموصلة إلى ذي الجلال، وإن مشروعيتها محلّ إجماع بلا نزاع».
وبذلك أقرَّ ابن تيمية الحنبلي نفسه كما في (مجموع الفتاوى - 27/ 267)؛ حيث يقول: «السفر إلى مسجده صلى الله عليه وآله وسلم الذي يُسَمَّى السفر لزيارة قبره هو ما أجمع عليه المسلمون جيلًا بعد جيل».
وقد ألَّف في مشروعية ذلك جماعة من أهل العلم؛ كالتقيّ السبكي في (شفاء السقام في زيارة خير الأنام عليه الصلاة والسلام)، وابن حجر الهيتمي في (الجوهر المنظّم في زيارة القبر النبوي المكرم)، وتلميذه الفاكهي في (حسن الاستشارة في آداب الزيارة).
أدلة مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي
وقالت دار الإفتاء: إن ممَّا يدلّ على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك شد الرحال لزيارته صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» (النساء: 64)، فهذه الآية عامة تشمل حالة الحياة وحالة الوفاة، وتشمل كذلك السفر وعدمه، وتخصيصُها بحالةٍ دون غيرها تخصيصٌ بلا مُخَصِّص، فلا يُقبل، والعموم فيها مستفادٌ من وقوع الفعل في سياق الشرط، والقاعدة المقررة في الأصـول: «أن الفعل إذا وقع في سياق الشرط كان عامًّا»؛ لأن الفعل في معنى النكرة لتضمنه مصدرًا مُنكَّرًا، والنكرة الواقعة في سياق النفي أو الشرط تكون للعموم وضعًا.
وقد ورد في الزيارة النبوية وإفرادها بالقصد أحاديث كثيرة: منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» رواه الدارقطني في (سننه)، وفي رواية: «مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَا يَعْلَمُهُ حَاجَةً إِلَّا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه الطبراني في (المعجم الكبير)، وفي رواية: «مَنْ زَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي» رواه الطبراني في (المعجم الكبير)، وهي أحاديثُ لها طرقٌ كثيرة يقوِّي بعضُها بعضًا، وصحَّحها كثيرٌ من الحفاظ: كابن خزيمة، وابن السكن، والقاضي عياض، والتقي السبكي، والعراقي، وغيرهم.
شدَّ الرحال إلى زيارة الأولياء «مشروع»
وأكدت دار الإفتاء، أن دعوى أن نيّة السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغيره بدعة، وأنَّ هذه زيارة غير شرعية، كلام مبتدع ليس عليه دليل صحيح، ولا يُؤَيّده معقول صريح، بل هو مذهب خالف به صاحبه ما تتابعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا من تعظيم النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ حرمته في حياته البرزخية كحرمته في حياته الدنيوية.
وإذا كانت زيارة القبور مشروعة، فإن شدَّ الرحال إليها بالسفر إلى أماكنها مشروع أيضًا؛ لأن وسيلة المشروع مشروعة، وشدُّ الرحال كنايةٌ عن السفر والانتقال، والسفر في نفسه ليس عبادة ولا عملًا مقصودًا لذاته في أداء العبادات، وقد اتفق علماء الأصول على أنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد؛ فإذا كان الحج واجبًا فشَدُّ الرحالِ للحج واجب، وإن كانت زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الصالحين والأقارب وعموم المسلمين مستحبةً، فيتعين أن يكون شدُّ الرحالِ لزيارتهم مستحبًّا، وإلا فكيف يُستَحبُّ الفعل وتحرُم وسيلتُه.
حديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
وأوضحت دار الإفتاء، أنه فيما يتعلق بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرويُّ في (الصحيحين) وغيرهما: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى»؛ فإنما معناه: لا تشد الرحال إلى مسجد لأجل تعظيمه والتقرب بالصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة لتعظيمها بالصلاة فيها، فهو خاصٌّ بالمساجد؛ فلا تُشَدُّ الرحال إلا لثلاثةٍ منها، بدليل جواز شد الرحال لطلب العلم وللتجارة.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي في (الجوهر المُنظّم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم): «وهذا التقدير لا بدّ منه عند كل أحد ليكون الاستثناء متصلًا، ولأنّ شد الرحال إلى عرفة لقضاء النسك واجب إجماعًا، وكذا الجهاد والهجرة من دار الكفر بشرطها، وهو لطلب العلم سنة أو واجب، وقد أجمعوا على جواز شدها للتجارة وحوائج الدنيا، فحوائج الآخرة لا سيما ما هو آكدها وهو الزيارة للقبر الشريف أَوْلى».
وقد صُرِّح بهذا المعنى عند الإمام أحمد في (المسند) حيث رواه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إِلَى مَسْجِدٍ يُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ، غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» وإسناده حسن، وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في (مسند البزار) مرفوعًا بلفظ: «أَنَا خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَمَسْجِدِي خَاتَمُ مَسَاجِدِ الأَنْبِيَاءِ، أَحَقُّ الْمَسَاجِدِ أَنْ يُزَارَ وَيُشَدُّ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدِي، صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ».
وقد اتفق العلماء على هذا الفهم، حتى عدُّوا ما نُقِل عن ابن تيمية من تحريم شد الرحال لزيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاذًّا مخالفًا للإجماع؛ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري): «والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شدّ الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنكرنا صورة ذلك.. وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية، ثم قال: قال بعض المُحقِّقين: قوله: (إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ) المستثنى منه محذوف، فإما أن يُقدَّر عامًّا فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمرٍ كان إلا إلى الثلاثة، أو أخص من ذلك: لا سبيل إلى الأول؛ لإفضائه إلى سدِّ باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها، فتعين الثاني، والأولى أن يقدَّر ما هو أكثر مناسبة، وهو: لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول مَن منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين، والله أعلم».
قال السبكي: «وليس في الأرض بقعة فيها فضل لذاتها حتى تُشَدَّ الرحالُ إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة، قال: ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتَّب عليه حكمًا شرعيًّا، وأما غيرها من البلاد فلا تُشَدُّ إليها لذاتها، بل لزيارة أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات، وقد التبس ذلك على بعضهم، فزعم أنَّ شد الرحال لمَن في غير الثلاثة: كسيدي أحمد البدوي ونحوه داخل في المنع، وهو خطأ؛ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستَثنَى منه، فمعنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال لزيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل لمَن في المكان، فليُفهَم».
واختتمت دار الإفتاء: «وعليه؛ فإنَّ شَدَّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين والأقارب مستحب؛ لأنه الوسيلة الوحيدة لتحصيل المستحب وهو الزيارة، والقول بأنَّه حرام قول باطل لا يُعوَّل عليه ولا يُلتفَتُ إليه».