عاجل
السبت 02 نوفمبر 2024 الموافق 30 ربيع الثاني 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

دار الإفتاء: الصلاة في المساجد التي بها أضرحة «جائزة ومشروعة ومستحبة».. والقول بتحريمها «باطل» ولا يُلتَفَتُ إليه

الدكتور شوقي علام
الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية وأمناء الفتوى

أوضحت دار الإفتاء المصرية، حكم الصلاة في المساجد التي بها أضرحة الأولياء والصالحين، وهل صحيح ما يقوله البعض من أن الصلاة في هذه المساجد باطلة وغير مقبولة؟

حكم الصلاة في المساجد التي بها أضرحة

وأكدت دار الإفتاء، أن الصلاة في المساجد التي بها أضرحة الأولياء والصالحين صحيحةٌ ومشروعةٌ، بل إنها تصل إلى درجة الاستحباب، وذلك ثابت بالكتاب، والسُّنَّة، وفعل الصحابة، وإجماع الأمة الفعلي.

وأدلة صحة ومشروعية الصلاة في المساجد التي بها أضرحة من القرآن الكريم، قوله تعالى: «فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا» (الكهف: 21)، وسياق الآية يدل على أن القول الأول هو قول المشركين، وأن القول الثاني هو قول الموحِّدين، وقد حكى الله تعالى القولين دون إنكار؛ فدل ذلك على إمضاء الشريعة لهما، بل إن سياق قول الموحدين يفيد المدح؛ بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحدين قاطعًا وأن مرادهم ليس مجرد البناء بل المطلوب إنما هو المسجد.

قال الإمام الرازي في تفسير «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا»: (نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد). وقال الشهاب الخفاجي في (حاشيته - على تفسير البيضاوي): «في هذه دليل على اتخاذ المساجد على قبور الصالحين».

الأدلة من السُّنَّة النبوية على صحة الصلاة في المساجد التي بها أضرحة

حديث أبي بصير رضي الله عنه، الذي رواه عبد الرزاق عن مَعمَر، وابن إسحاق في (السيرة)، وموسى بن عُقبة في (مغازيه) -وهي أصح المغازي كما يقول الإمام مالك- ثلاثتهم عن الزُّهرِي، عن عُروة بن الزُّبَير، عن المِسوَر بن مَخرَمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهم: «أن أبا جَندَلِ بن سُهَيل بن عمرو دفن أبا بَصِير رضي الله عنه لَمَّا مات وبنى على قبره مسجدًا بـ(سِيف البحر)، وذلك بمحضر ثلاثمائة من الصحابة». وهذا إسناد صحيح؛ كله أئمة ثقات، ومثل هذا الفعل لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك فلم يَرِد أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإخراج القبر من المسجد أو نبشه.

كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في مسجد الخَيفِ قَبرُ سبعين نبيًّا» أخرجه البزار والطبراني في المعجم الكبير، وقال الحافظ ابن حجر في (مختصر زوائد البزار): «هو إسناد صحيح».

نبي الله إسماعيل مدفون في المسجد الحرام

وأشارت دار الإفتاء، إلى أنه ثبت في الآثار أن نبي الله إسماعيل -عليه السلام-، وأمه هاجر -رضي الله عنها- قد دُفِنا في الحِجر بالمسجد الحرام في مكة المكرمة، وهذا هو الذي ذكره ثقات المؤرخين واعتمده علماء السِّيَر؛ كابن إسحاق في (السيرة)، وابن جرير الطبري في (تاريخه)، والسهيلي في (الروض الأُنف)، وابن الجوزي في (المنتظم)، وابن الأثير في (الكامل)، والذهبي في (تاريخ الإسلام)، وابن كثير في (البداية والنهاية)، وغيرهم من مؤرخي الإسلام، وأقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ولم يأمر بنبش هذه القبور وإخراجها من مسجد الخيف أو من المسجد الحرام.

وأوضحت دار الإفتاء، أن فعل الصحابة الدال على أن الصلاة في المساجد التي بها أضرحة صحيحةٌ ومشروعةٌ، بل إنها تصل إلى درجة الاستحباب، حكاه الإمام مالك في (الموطأ) وهو بلاغ صحيح عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكان دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «فقال ناسٌ: يُدفَنُ عندَ المِنبَرِ، وقال آخَرُونَ: يُدفَنُ بالبَقِيعِ، فجاءَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فقال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وآله وسلم يقولُ: (ما دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إلَّا في مَكانِه الذي تُوُفِّيَ فيه)، فحُفِرَ له فيه»، والمنبر من المسجد قطعًا، ولم ينكر أحد من الصحابة هذا الاقتراح، وإنما عدل عنه أبو بكر تطبيقًا لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُدفَن حيث قُبِضَت روحه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم؛ فدُفِن في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها المتصلة بالمسجد الذي يصلي فيه المسلمون، وهذا هو نفس وضع المساجد المتصلة بحجرات أضرحة الأولياء والصالحين في زماننا.

وأما دعوى الخصوصية في ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي غير صحيحة؛ لأنها دعوى لا دليل عليها، بل هي باطلة قطعًا بدَفنِ سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما في هذه الحجرة التي كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تعيش فيها وتصلِّي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة؛ فكان ذلك إجماعًا من الصحابة رضي الله عنهم على جوازه.

إجماع المسلمين على صحة الصلاة في المساجد التي بها أضرحة

وتابعت دار الإفتاء: ومن إجماع الأمة الفعلي وإقرار علمائها بأن الصلاة في المساجد التي بها أضرحة صحيحةٌ ومشروعةٌ، بل إنها تصل إلى درجة الاستحباب: صلاة المسلمين سلَفًا وخَلَفًا في مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمساجد التي بها أضرحة من غير نكير.

وإقرار العلماء من لدن الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة الذين وافقوا على إدخال الحجرة النبوية الشريفة إلى المسجد النبوي سنة ثمانٍ وثمانين للهجرة؛ وذلك بأمر الوليد بن عبد الملك لعامله على المدينة حينئذٍ عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ولم يعترض منهم إلا سعيد بن المُسَيب رضي الله عنه، لا لأنه يرى حرمة الصلاة في المساجد التي بها قبور؛ بل لأنه كان يريد أن تبقى حجرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هي يطلع عليها المسلمون حتى يزهدوا في الدنيا ويعلموا كيف كان يعيش نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.

حديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد

وأكدت دار الإفتاء، أنه فيما يتعلق بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها المروي في (الصحيحين)، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيائِهم مَساجِدَ»؛ فالمساجد: جمع مَسجِد، والمسجد في اللغة: مصدر ميمي يصلح للدلالة على الزمان والمكان والحدث، ومعنى اتخاذ القبور مساجد: السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها؛ كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان؛ كما فسَّرَته الرواية الصحيحة الأخرى للحديث عند ابن سعد في (الطبقات الكبرى) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ الله قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، فجملة «لعن الله قومًا..» بيانٌ لمعنى جَعل القبر وثنًا، والمعنى: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُسجَدُ له ويُعبَد؛ كما سجد قوم لقبور أنبيائهم.

قال الإمام البيضاوي: «لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم؛ تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم الله ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه، أما من اتخذ مسجدًا بجوار صالِحٍ أو صلَّى في مقبرته وقصد به الاستظهار بروحه ووصول أثر من آثار عبادته إليه -لا التعظيم له والتوجه- فلا حرج عليه؛ ألا ترى أن مدفن إسماعيل في المسجد الحرام ثم الحطيم، ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي بصلاته، والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمنبوشة؛ لِما فيها من النجاسة».

واختتمت دار الإفتاء: «وبناءً على ما سبق ذكره من أدلة؛ فإن الصلاة في المساجد التي بها أضرحة الأولياء والصالحين جائزة ومشروعة، بل ومستحبة أيضًا، والقول بتحريمها أو بطلانها قولٌ باطل لا يُلتَفَتُ إليه ولا يُعَوَّلُ عليه».

تابع موقع تحيا مصر علي