دار الإفتاء: تقبيل الأضرحة والتمسح بها بقصد التبرك «جائز شرعًا».. وهو المعتمد عند أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة
ADVERTISEMENT
نرى أثناء زيارتنا لأضرحة آل البيت والأولياء والصالحين بعض الناس يقومون بتقبيل والمسح على الضريح أو المقصورة الموضوعة حول الضريح؛ فما حكم المسح على قبور الأنبياء والصالحين وتقبيلها من باب التبرك؟ وهل صحيح كما يقول البعض أن المسح على الضريح وتقبيله بدعة قد تصل بالإنسان إلى الشرك؟
حكم تقبيل قبور الأنبياء والأولياء
دار الإفتاء المصرية، حسمت الجدال وأوضحت الحكم الشرعي في هذه المسألة؛ إذ أكدت أن المسح على قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقبور الأولياء والصالحين وتقبيلها جائزٌ شرعًا؛ لأنه نوعٌ من التبرك بهم وتعظيمهم واحترامهم، ولا مانع منه شرعًا، وقد دلت على مشروعية هذا الفعل الأدلة، وجرى عليه عمل المسلمين عبر الأزمان والبلدان.
والدليل على جواز تقبيل قبر سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأولياء الصالحين؛ ما ورد من جواز تقبيل الحجر الأسود واستحباب ذلك، فقد بوَّب البخاري: (باب تقبيل الحجر)، وأورد فيه حديثين عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وبوَّب مثله أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والدارمي وغيرهم؛ فعن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الـحَجَر فقبَّله فقال: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك.
فقد استنبط بعض العلماء من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من في تكريمه وتشريفه تعظيم لله عز وجل ويرجى البركة والمثوبة بتوقيره ومحبته من آدمي وغيره، ودخل في ذلك كتب العلم والمصحف الشريف وقبور الصالحين.
رأي أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة
وأوضحت دار الإفتاء، أن العلماء أجازوا المسح على قبور الأنبياء والأولياء والصالحين وتقبيلها إن قُصِد بهذا الفعل التبرك، وعلى ذلك جرى فعل السلف والمحدثين وهو المعتمد عند أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة.
روى طاهر بن يحيى العلوي والحافظ ابن الجوزي في (الوفاء)، عن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: لما رمس (مات) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت السيدة فاطمة رضي الله عنها فوقفت على قبره، وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعته على عينيها، وبكت، وأنشدت تقول:
ماذا على من شمّ تربة أحمد.. أن لا يشمّ مدى الزّمان غواليا
صبّت عليّ مصائب لو أنّها.. صبّت على الأيّام عدن لياليا
ونقل الإمام الصالحي، في كتاب (سبل الهدى والرشاد): «وذكر الخطيب ابن جملة أنَّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف.. قال: ولا شك أن الاستغراق في المحبّة يُحمَل على الإذن في ذلك، والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم، والناس يختلف مراتبهم في ذلك، كما كانت تختلف في حياته، فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم، بل يبادرون إليه، وأناس فيهم أناة يتأخرون، والكلّ محل خير. وقال الحافظ: استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كلّ من يستحق التعظيم من آدميّ وغيره».
وقال الحافظ ابن حجر في كتاب (تهذيب التهذيب): «قال الحاكم صاحب المستدرك، في (تاريخ نيسابور): سمعت أبا بكر محمد بن المؤمل يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة مع جماعة من مشايخنا، وهم إذ ذاك مجتمعون بنية الذهاب إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضى بـ (طوس)، قال: فرأيت من تعظيمه، يعني ابن خزيمة، لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيرنا».
حكم تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم بقصد التبرك
وأوضحت دار الإفتاء، أن جواز المسح على قبور الأنبياء والأولياء والصالحين وتقبيلها هو المعتمد في مذهب الشافعية، ووجَّه الإباحة بأن التقبيل إنما يُقصَد به التبرك بصاحب الضريح، وهو بهذا القصد لا يوجد ما يمنعه في الشرع؛ قال العلاَّمة الشمس الرملي في كتاب (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج): «إن قصد بتقبيل أضرحتهم التبرك لم يكره كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى»، وقال الشيخ الرشيدي في (حاشيته عليه): «قوله: نعم إن قصد بتقبيل أضرحتهم التبرك... إلخ؛ هذا هو الواقع في تقبيل أضرحتهم وأعتابهم فإن أحدًا لا يقبلها إلا بهذا القصد كما هو ظاهر».
وقال الشيخ البجيرمي في (حاشيته على شرح المنهاج): «إن قصد بتقبيل أضرحتهم -أي: وأعتابهم- التبرك لم يكره، وهذا هو المعتمد».
وقال الإمام البدر العيني في كتاب (عمدة القاري شرح صحيح البخاري): [«وقال شيخنا زين الدين: وأما تقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرك، وكذلك تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم فهو حسن محمود باعتبار القصد والنية، وقد سأل أبو هريرة الحسن بن علي رضي الله عنهم أن يكشف له المكان الذي قبَّله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -وهو سرته- فقبله تبركًا بآثارهِ وذريته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان التابعي ثابت البناني لا يدع يد الصحابي أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه حتى يقبِّلها، ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
وأضاف الإمام البدر العيني: «وسئل الإمام أحمد بن حنبل، عن حكم تقبيل قبر ومنبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لا بأس بذلك. وقد روينا عن الإمام أحمد، أنه غسل قميصًا للإمام الشافعي وشرب الماء الذي غسله به، وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة؟ وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ ولقد أحسن مجنون ليلى حيث يقول:
أمر على الديار ديار ليلى.. أقبل ذا الجدارَ وذا الجـدارا
وما حب الديار شغفن قلبي.. ولكن حب من سكن الديارا».
ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل، جواز تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، نقله عنه ابنه عبد الله في كتاب (العلل). قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتبرك بمسه وتقبيله ويفعل بالقبر الشريف مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز؟ قال الإمام أحمد: لا بأس بذلك».
ورد الإمام الذهبي في كتاب (معجم الشيوخ الكبير) على مَن قال: لِمَ لَم ينقل عن الصحابة تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال معلِّلًا: «لأنهم عاينوه صلى الله عليه وآله وسلم حيًّا، وتملوا به، وقبَّلوا يده، وكادوا يقتتلون على وضوئه، واقتسموا شعره المطهَّر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخَّم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن: فلما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل.. وهذه الأمور لا يحرِّكها من المسلم إلا فرط حبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هو مأمور بأن يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه وولده والناس أجمعين ومن أمواله ومن الجنة وحورها».
واختتمت دار الإفتاء، وبناء على ما سبق؛ فتقبيل قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبور الأولياء الصالحين والتمسح بها جائزٌ ومشروع على سبيل التبرك، وعلى ذلك جرى عمل المسلمين في كل البلدان وعبر الأزمنة المختلفة منذ عهد سيدنا رسول الله وحتى زماننا هذا.