عاجل
الإثنين 25 نوفمبر 2024 الموافق 23 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢٨)

تحيا مصر

أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».

هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.

مقالي الثامن والعشرين في السيرة العطرة لحبيب رب البرية محمد رسول الإنسانية بعنوان «غزوة حُنَيْن والطائف»، كانت في أوائل شوال من السنة الثامنة، يناير ٦٣٠ م، ومن حديثها أنه بعد أن تم فتح مكة رأت بطون هوزان من نفسها عزة وأنفة أن تقابل هذا الانتصار بالخضوع فأعلنت خلافها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانضمت إليها بطون ثقيف.. بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم في ألفين من أهل مكة وعشرة آلاف من أهل الفتح، وقد أُعجب المؤمنون فيها بكثرتهم حتى قال أحدهم: لن نُغلب اليوم عن قلة، وهنا عجبتهم كثرتهم وقوتهم وتناسوا أن النصر كله من عند الله سبحانه وتعالى.

وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنينًا في أوائل شوال، وقد جعلت هوزان كمينًا على جانبيه، وحملوا على المسلمين حملة رجل واحد قبل أن يهيئ هؤلاء صفوفهم فولوا لا يلوي أحد على أحدٍ، وناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا، وثبت معه نفر قليل من كبار الصحابة، فنادى العباس وكان جهير الصوت، فاجتمع نحو المائة واستقبلوا هوزان والناس متلاحقون، فألقى الله الرعب في قلوبهم فولوا منهزمين، وغنم المسلمون مالهم وعيالهم، واستمر القتل في بني مالك وثقيف، ففر منهم إلى الطائف وقتل من ثقيف وحدهم نحو السبعين.

أنزل الله سبحانه وتعالى في هذه الغزوة قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)} [التوبة: ٢٥ - ٢٧].

ثم سار عليه الصلاة والسلام لغزوة الطائف والقضاء على من فر من غزوة حُنين، فلما انتهى إليهم وجدهم قد تحصنوا وحملوا معهم قوت سنة، فحاصرهم أيامًا ثم دعا لهم وارتحل إلى الجعرانة وبها غنائم هوزان، وكانت - كما يقولون - أربعة وعشرين ألف بعير وأكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية من الفضة، فرقها النبي على غير الأنصار فوجدوا في نفوسهم، فدعاهم وقال: «أوجدتم يا معشر الأنصار عليَّ لُعاعةً من الدنيا ألَّفْتُ بها قومًا لِيُسْلِموا ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم، أما ترضون أن يذهب الناس بالعير والشاة وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ أما والذي نفس محمدٍ بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا لسلكت شِعْبَ الأنصار»، فرضوا ثم دعا لهم.

وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من هوزان مسلمين بالجعرانة، فخيرهم بين نسائهم وأموالهم وأبنائهم فاختاروا النساء والأبناء، فرد عليهم ما اختاروا وكان عددهم ثمانية آلاف.. ثم وفد عليه بعد ذلك مالك بن عوف سيد هوزان، فرد عليه أهله وماله وأعطاه فوق ذلك مائة من الإبل، فحسن إسلامه، واستعمله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه.. ثم اعتمر صلى الله عليه وسلم من الجعرانة إلى مكة ورجع إلى المدينة، واستعمل على مكة «عتاب بن أسيد» شابًا ينيف عن العشرين يغلب عليه الورع والزهد.

وجاء شهر رجب من السنة التاسعة، حيث أقام صلى الله عليه وسلم فيه بأمر الناس أن يتجهزوا لغزوة الروم، وكان النبي كثيرًا ما يوري بغير الجهة التي يقصدها، على طريقة الحرب، إلا ما كان في هذه الغزوة؛ لأن التأهب لها كان في زمن عُسْرةٍ وشدة من الحر وجدبٍ في البلاد وقد طاب الثمر، والناس على مثل هذا الحال يحبون المقام في ثمرهم وظلالهم؛ وسمي هذا الجيش «جيش العُسْرة»، لذلك، فتقدم كثير من المسلمين بالإنفاق، فأنفق سيدنا عثمان عشرة آلاف دينار، وحمل على تسعمائة بعير ومائة فرس، وجهز ركابًا، وتصدق أبو بكر بجميع ماله، فسار صلى الله عليه وسلم في جيش كبير حتى وصل تبوك فلم يصادف هناك جيشًا.

وبعد أيام أقامها جائه يوحنا صاحب أيلة «ميناء العقبة اليوم» وأهل جرباء وأهل أذرح وأهل ميناء، فصالح يوحنا على الجزية وأهل جرباء وأذرح على مائة دينار في كل رجب وأهل ميناء على ربع ثمارهم.. ثم قدم إلى المدينة في رمضان وبها من الأنصار ثلاثة متخلفون «كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميه»، فعتذروا إليه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مخاطبتهم فاعتزلهم الناس خمسين ليلة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم.

ذكر الله سبحانه وتعالى أمر غزوة تبوك في «سورة التوبة»، وأشار إلى أنه كاد يزيغ قلوب فريق من الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، وأنه تاب عليهم وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا ولم يشخصوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر شيئًا كثيرًا غير ذلك، وهذه كانت آخر غزوة خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم محاربًا، ثم قدم عليه وفد ثقيف فأسلموا وبعث معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان ليهدما اللات، ثم جعلت وفود العرب تفِد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع القبائل وهم مسلمون، مصداقًا لقوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ (١) وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا (٢) فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا (٣)} [النصر: ١ - ٣].

تابع موقع تحيا مصر علي