عاجل
الإثنين 25 نوفمبر 2024 الموافق 23 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢٦)

تحيا مصر

أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».

هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.

مقالي السادس والعشرين في السيرة العطرة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بعنوان «غزوة القضاء.. وفتح مكة»، غزوة عمرة القضاء حدثت في السنة السابعة للهجرة بين قوات المسلمين وقريش، حيث تواترت الأخبار أنه لما هَلَّ ذو القعدة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وألا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا إلا من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوى النساء والصبيان.

واستخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي، أو أبا رُهْم الغفاري، وساق ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جُنْدُب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذي الحُلَيْفَة، ولبى، ولبى المسلمون معه، وخرج مستعداً بالسلاح والمقاتلة، خشية أن يقع من قريش غدر، فلما بلغ يَأجُج وضع الأداة كلها «الحَجَف والمِجَانّ والنَّبْل والرِّماح، وخلف عليها أوس بن خَوْلِي الأنصاري في مائتي رجل»، ودخل بسلاح الراكب السيوف في القُرُب.

وكان رسول الله عند الدخول راكباً على ناقته القَصْواء، والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول الله يلبون، وخرج المشركون إلى جبل قُعَيْقِعَان ـ الجبل الذي في شمال الكعبة ـ ليروا المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم، وإنما أمرهم بذلك ليري المشركين قوته كما أمرهم بالاضطباع، أي أن يكشفوا المناكب اليمنى، ويضعوا طرفي الرداء على اليسرى.

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الحَجُون ـ وقد صف المشركون ينظرون إليه ـ فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمِحْجَنِه، ثم طاف، وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله يرتجز متوشحاً بالسيف: «خلوا بني الكفار عن سبيله .. خلـوا فكـل الخير في رسوله، قد أنزل الرحمن في تنزيله .. في صحف تتلى على رسوله، يارب إني مؤمن بقيله .. إني رأيت الحق في قبوله، بأن خير القتل في سبيله .. اليوم نضربكم على تـنزيله، ضرباً يزيل الهام عن مقيله .. ويذهل الخليل عن خليله».

ورَمَلَ رسول الله والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا.. ولما فرغ من الطواف سعى بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد وقف الهدي عند المروة، قال: «هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر»، فنحر عند المروة، وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، ثم بعث ناساً إلى يَأْجُج، ليقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضون نسكهم ففعلوا.

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام، ونزل بسَرِف فأقام بها، ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة، تنادي، يا عم يا عم، فتناولها علي، واختصم فيها علي وجعفر وزيد، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر، لأن خالتها كانت تحته.

وفي هذه العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها إياه، فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي، فبنى بها بسرف.. وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء، إما لأنها كانت قضاء عن عمرة الحديبية، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة ـ أي المصالحة ـ التي وقعت في الحديبية، والوجه الثاني رجحه المحققون، وهذه العمرة تسمى بأربعة أسماء: «القضاء، والقَضِيَّة، والقصاص، والصُّلح».

ثم نأتي لفتح مكة، ويسمى أيضًا بالفتح الأعظم، وكانت غزوة فتح مكة في السنة الثامنة لعشر خلون من رمضان، أول يناير سنة ٦٣٠ م، ومن حديثها أن قريشًا نقضت العهد بمساعدتها بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج عليه الصلاة والسلام في عشرة آلاف، وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم خذ العيون والأبصار من قريش حتى نبغتها في بلادها».

فطوى الله أخباره عنهم، وبينما كان المسلمون بمر الظهران ركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقابل أبا سفيان وهو يتجسس أيضًا، فقال العباس: هذا رسول الله في المسلمين أتاكم في عشرة آلاف نفس، قال: فما تأمرني به؟ قال: تركب معي، فوالله إن ظفر بك ليضربن عنقك، ونهض به إلى المعسكر ليستأمن له الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما وصل به وجد عمر قد سبقه وهو يطلب أن يأمره بقتل أبي سفيان، فقال العباس: قد أجرته، فأمر رسول الله العباس أن يحمله إلى ويأتيه به صباحًا ففعل، حتى إذا كان الصباح غدا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان: «ويحك يا أبا سفيان! أما آن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟»، فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد علمت لو كان معه إله غيره لقد أغنى شيئًا بعد، قال عليه الصلاة والسلام: «ويحك! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟»، قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه ففي النفس منها شئ.

وبعد كلام وحوار أسلم أبو سفيان، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فجعل له شيئًا، قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، ثم أمر العباس أن يوقف أبا سفيان ليرى جنود الله، فمرت به القبائل قبيلة قبيلة إلى أن جاء موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدق به المهاجرون والأنصار، عليهم الدروع البيض، فقال: من هؤلاء؟ فقال العباس: هذا رسول الله بين المهاجرين والأنصار، فقال: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيمًا، فقال: يا أبا سفيان، إنها النبوة! فقال: هي إذًا.. ثم أُطلق فذهب مسرعًا إلى قريش ونادى بأعلى صوته: يا معشر قريش، قد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به، وأعلن لهم كلمة الرسول.

تابع موقع تحيا مصر علي