ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢٣)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي الثالث والعشرين في السيرة النبوية لسيد البشرية وزعيم الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم بعنوان «دعاء النبي والنصر على الأحزاب»، ذكرنا في المقال السابق أن الحرب خدعة، لكن عندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق، حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديدًا، توجهوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: «يا رسول الله، هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر»، فقال: «نعم.. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا»، كما دعا الرسول عليه الصلاة والسلام على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم».
ولأن المسلمين يؤمنون بأن الله تعالى استجاب دعاء نبيه على الأحزاب، فصرفهم بحوله وقوته، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتت جمعهم بالخلاف، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده سبحانه، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده»، وجاء في سورة الأحزاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٩)} [الأحزاب: ٩].
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: وكانت هذه الريح معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي محمد عليه الصلاة والسلام والمسلمين كانوا قريبًا منهم، ولم يكن بينهم إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها ولا خبر عندهم بها.. وبعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيول بعضها في بعض، وأرسل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر حتى كان سيد كل خباء يقول: «يا بني فلان هلم إليَّ»، فإذا اجتمعوا قال لهم: «النجاء النجاء»، لما بعث الله عليهم الرعب.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتابع أمر الأحزاب، وأحب أن يتحرى عما حدث عن قرب فقال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة»، فاستعمل أسلوب الترغيب، وكرره ثلاث مرات، وعندما لم يُجْدِ هذا الأسلوب لجأ إلى أسلوب الجزم والحزم في الأمر، فعين واحدًا بنفسه فقال: «قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ».
قال حذيفة بن اليمان العبسي الغطفاني: «فمضيت كأنما أمشي في حمَّام، فإذا أبو سفيان يُصلى ظهره بالنار، فوضعت سهمًا في كبد القوس، وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تذعرهم عليَّ»، ولو رميته لأصبته، فرجعت كأنما أمشي في حمَّام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابني البرد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائمًا حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا نومان»».
ويروى أنه لما كان حذيفة عند الأحزاب، قال أبو سفيان: «ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه»، قال حذيفة: فضربت بيدي على يد الذي على يميني فقلت: «من أنت؟»، قال: «معاوية بن أبي سفيان»، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي، فقلت: «من أنت؟»، قال: «عمرو بن العاص»، وهكذا بدرهم بالمسألة حتى لا يتيح لهم فرصة ليسألوه، وبهذا تخلص من هذا المأزق الحرج الذي ربما كان أودى بحياته.
وأنشأ المسلمون أول مستشفى إسلامي حربي في غزوة الأحزاب، فقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمةً في مسجده في المدينة، عندما دارت رحى غزوة الأحزاب، فأمر أن تكون «رفيدة الأسلمية الأنصارية» رئيسةَ ذلك المستشفى، وبذلك أصبحت أول ممرضة عسكرية في الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من به ضيعة من المسلمين، وكان عليه الصلاة والسلام قد قال لقومه حين أصاب سعد بن معاذ السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب»».
ويُفهم من النص السابق أن من أصيب من المسلمين إن كان له أهل اعتنى به أهلُه، وإن لم يكن له أهل، جيء به إلى المسجد حيث ضُربت خيمة فيه لمن كانت به ضيعة من المسلمين، وسعد بن معاذ الأوسي، ليس به ضيعة، ولكن لمَّا أراد الرسول الاطمئنان عليه باستمرار، جعله في تلك الخيمة التي أعدت لمن به ضيعة وليس له أهل، ذلك أن هؤلاء هم في رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد كانت غزوة الخندق من الغزوات المهمة التي خاضها المسلمون ضد أعدائهم وحققوا فيها نتائج مهمة منها: «انتصار المسلمين وانهزام أعدائهم، وتفرقهم ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم.. تغير الموقف لصالح المسلمين، فانقلبوا من موقف الدفاع إلى الهجوم، وقد أشار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: «الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم».. كشفت هذه الغزوة يهود بني قريظة وحقدهم على المسلمين وتربص الدوائر بهم، فقد نقضوا عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف وأصعبها.. كشفت غزوة الأحزاب حقيقةَ صدق إيمان المسلمين وحقيقةَ المنافقين وحقيقةَ يهود بني قريظة.. كانت غزوة بني قريظة نتيجةً من نتائج غزوة الأحزاب، حيث تم فيها محاسبةُ يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف وأقساها».