عاجل
الثلاثاء 05 نوفمبر 2024 الموافق 03 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢٢)

تحيا مصر

أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».

هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.

مقالي الثاني والعشرين في سيرة رسول الإنسانية وخاتم النبوة وخير البرية محمد شفيع البشرية بعنوان «الحرب خدعة ومفاوضة غطفان»، فقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة غطفان بالذات لمصالحتها على مال يدفعه إليها على أن تترك محاربته وترجع إلى بلادها، فهو يعلم أن غطفان وقادتها ليس لهم من وراء الاشتراك في هذا الغزو أيُّ هدفٍ سياسي يريدون تحقيقه، أو باعثٍ عقائدي يقاتلون تحت رايته، وإنما كان هدفُهم الأول والأخير من الاشتراك في هذا الغزو الكبير هو الحصول على المال بالاستيلاء عليه من خيرات المدينة عند احتلالها.

ولهذا لم يحاول الرسول صلى الله عليه وسلم الاتصال بقيادة الأحزاب من اليهود (كحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع)، أو قادة قريش كأبي سفيان بن حرب، لأن هدف أولئك الرئيسي، لم يكن المال، وإنما كان هدفهم هدفًا سياسيًّا وعقائديًّا يتوقف تحقيقه والوصول إليه على هدم الكيان الإسلامي من الأساس؛ لذا فقد كان اتصاله فقط بقادة غطفان، الذين لم يترددوا في قبول العرض الذي عرضه عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استجاب القائدان: عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني، والحارث بن عوف المري الغطفاني لطلب الرسول، وحضرا مع بعض أعوانهما إلى مقر قيادة النبي، واجتمعا به وراء الخندق مستخفين دون أن يعلم بهما أحد.

وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مفاوضتهم، وكانت المفاوضة تدور حول عرض تقدم به رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيه إلى عقد صلح منفرد بينه وبين غطفان، وأهم البنود التي جاءت في هذه الاتفاقية المقترحة: «عقد صلح منفرد بين المسلمين وغطفان الموجودة ضمن جيوش الأحزاب.. توادعُ غطفانُ المسلمين وتتوقف عن القيام بأي عمل حربي ضدهم، وخاصة في هذه الفترة.. تفكُ غطفان الحصار عن المدينة وتنسحب بجيوشها عائدة إلى بلادها.. يدفعُ المسلمون لغطفان مقابل ذلك ثلثَ ثمار المدينة كلِّها من مختلف الأنواع، ويظهر أن ذلك لسنة واحدة».

فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لقائدي غطفان: «أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟»، قالا: «تعطينا نصف تمر المدينة»، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، وجاء في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر، وقَبْلَ عقد الصلح مع غطفان، شاور الرسول الصحابة في هذا الأمر، فكان رأيهم في عدم إعطاء غطفان شيئاً من ثمار المدينة.

وقال السعدان: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة: «يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه؟ أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟»، فقال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما»، فقال له سعد بن معاذ: «يا رسول الله، قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرى أو بَيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم»، فقال الرسول: «أنت وذاك»، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: «ليجهدوا علينا».

ولأن الحرب خدعة، فقد فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفكيك الأحلاف وخلق خلاف بينهم، وكانت الفرصة عندما ذهب رجل من غطفان هو نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه، وقال له: «يا رسول الله، إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت»، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة».

فذهب من فوره إلى بني قريظة -وكان عشيراً لهم في الجاهلية- فدخل عليهم وقال: «قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم»، قالوا: «صدقت»، قال: «فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم»، قالوا: «فما العمل يا نعيم؟»، قال: «لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن»، قالوا: «لقد أشرت بالرأي».

ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش، وقال لهم: «تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟»، قالوا: «نعم»، قال: «إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم»، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك.

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة 5هـ، بعثت قريش وغطفان إلى اليهود: «إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً»، فأرسل إليهم اليهود: «إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب مَن قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن»، فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان: «صدقكم والله نعيم»، فبعثوا إلى اليهود: «إنا والله لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً»، فقالت قريظة: «صدقكم والله نعيم»، فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم.. وقد نجحت حيلة نعيم بن مسعود أيما نجاح، فغرست روح التشكيك وعدم الثقة بين قادة الأحزاب؛ مما أدى إلى كسر شوكتهم، وتهبيط عزمهم.

تابع موقع تحيا مصر علي