ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢٠)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي العشرون في السيرة النبوية المحمدية لشفيع الأمة وكاشف الغمة محمد عليه الصلاة والسلام بعنوان «غزوة الخندق والمنافقين من المسلمين»، أقبلت قريش وكنانة في أربعة آلاف مقاتل، حتى نزلوا بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزعابة، وأقبلت غطفان وبنو أسد وسليم في ستة آلاف حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد.. ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا: «هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله»، فنزلت هذه الآية من سورة الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢)} [الأحزاب: ٢٢].
وأما المنافقون فقد انسحبوا من الجيش، وزاد خوفُهم، حتى قال معتب بن قشير الضبيعي الأوسي: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط» كما ذكرنا من قبل، وطلب البعض الآخر الإذن لهم بالرجوع إلى بيوتهم بحجة أنها عورة، فقد كان موقفهم يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين.
وقد صور القرآن حال المنافقين في هذه الآيات: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (١٤) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا(٢٠)} [الأحزاب: ١٣ - ٢٠].
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورَهم إلى جبل سلع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الأحزاب، وكان شعارهم: «هم لا ينصرون»، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة، ولما أراد المشركون مهاجمةَ المسلمين واقتحامَ المدينة، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة - كما قالوا - مكيدةً ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً.
وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب، ليبنوا به طريقاً يمكّنهم من العبور.
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى في ترقب نتائج الحصار، فإن ذلك لم يكن من شيمهم، فتلبس منهم للقتال جماعة فيها عمرو بن عبد ود العامري القرشي وعكرمة بن أبي جهل المخزومي القرشي وضرار بن الخطاب الفهري القرشي وهبيرة بن أبي وهب المخزومي القرشي وغيرهم، ثم خرجوا على خيلهم فمروا بمنازل حلفائهم وبني عمومتهم بني كنانة فقالوا يستثيرون حميتهم للقتال: «تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم».
ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم، حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: «والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها»، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانتدب له علي بن أبي طالب، وقال كلمة حمي لأجلها، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتجاولا وتصاولا، حتى قتله عليٌّ، وانهزم الباقون حتى اقتحموا من الخندق هاربين، وقد بلغ بهم الرعبُ إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو.
وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلّماً ليُرى مكانُه، فلما وقف هو وخيله قال: «من يبارز؟»، فبرز له علي بن أبي طالب فقال له: «يا عمرو، إنك كنت عاهدت الله ألا يدْعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه»، قال له: «أجل»، قال له علي: «فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام»، قال: «لا حاجة لي بذلك»، قال: «فإني أدعوك إلى النزال»، فقال له: «لم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك»، قال له علي: «لكني والله أحب أن أقتلك»، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي، وخرجت خيلهم منهزمةً حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
وقال علي بن أبي طالب في ذلك: «نَصَرَ الحجارة من سفاهة رأيه .. ونصـرتُ رب محمد بـصـوابي - فصـددتُ حيـن تركـتُه متـجدلاً .. كالجذع بين دكادك وروابي - وعفـفتُ عن أثوابه ولو أنني .. كنت المقـطَّرَ بزّني أثوابي - لا تحسـبنَّ اللـهَ خاذلَ ديـنِه .. ونبـيِّه يا معـشرَ الأحـزابِ»، وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق، أو لبناء الطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحةً شديدةً، ورشقوهم بالنبل وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم.
ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فاتت بعض الصلوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فقد وَجَّهَ المشركون كتيبةً غليظةً نحو مقر الرسول، فقاتلهم المسلمون يومًا إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت كتيبةٌ، فلم يقدر النبي ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا، وشغل بهم الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يصل العصر، ولم تنصرف الكتيبة إلا مع الليل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».
وقد دامت محاولةُ العبور من المشركين، والمكافحةُ المتواصلة من المسلمين أياماً، إلا أن الخندق لمّا كان حائلًا بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر وحرب دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة، وفي هذه المراماة قُتل رجال من الجيشين «ستة من المسلمين وعشرة من المشركين»، بينما كان قُتل واحد أو اثنين منهم بالسيف.