ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢٥)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي الخامس والعشرين في السيرة العطرة لرسول الله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بعنوان «غزوة الحديبية والصلح مع قريش»، ففي شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد المسير إلى مكة لأداء العمرة وذلك بعد رؤيته في منام أنه يطوف بالبيت الحرام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن تتعرض له قريش بحرب أو يصدوه عن البيت الحرام، لذلك استنفر من حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، فأبطؤوا عليه، فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار وبمن لحق به من العرب.
وقد كشف القرآن الكريم عن حقيقة نوايا الأعراب، قال الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا(١٢)} [الفتح: ١١ - ١٢ ]، وقد ذكر مجاهد أن الأعراب الذي عنتهم الآية هم أعراب جهينة ومزينة، وذكر الواقدي أن الأعراب الذي تشاغلوا بأموالهم وأولادهم وذراريهم هم أعراب المدينة من غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع وبني الدئل من كنانة.
وأذّن في أصحابه بالرحيل إليها لأدائها وسار النبي صلى الله عليه وسلم بألف وأربع مئة من المهاجرين والأنصار، وكان معهم سلاح السفر لأنهم يرغبون في السلام ولا يريدون قتال المشركين، ولبسوا ملابس الإحرام ليؤكدوا لقريش أنهم يريدون العمرة ولا يقصدون الحرب، وما حملوا من سيوف إنما كان للحماية مما قد يعترضهم في الطريق.. وعندما وصلوا إلى «ذي الحليفة» أحرموا بالعمرة، فلما اقتربوا من مكة بلغهم أن قريشاً جمعت الجموع لمقاتلتهم وصدهم عن البيت الحرام.
فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية أرسل عثمان بن عفان إلى قريش وقال له: «أخبرهم أنّا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، وإدعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، وأن الله عز وجل مُظهر دينه بمكة».. فانطلق عثمان، فأتى قريشاً، فقالوا: إلى أين؟ فقال: بعثني رسول الله أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ويخبركم: أنه لم يأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ إلى حاجتك، ولكن عثمان احتبسته قريش فتأخر في الرجوع إلى المسلمين، فخاف النبي عليه، وخاصةً بعد أن شاع أنه قد قتل، فدعا إلى البيعة، فتبادروا إليه، وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، وهذه هي بيعة الرضوان.
ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف العامري القرشي، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل غادر؛ فلما انتهى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكلمه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم نحواً مما قال لبديل وأصحابه؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
ثم بعثت قريش حليفهم الحليس بن علقمة الكناني وكان يومئذ سيد الأحابيش وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ليفاوض النبي فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه»، فلما رآى الهدي يسيل عله من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فأخبرهم بما رأى، فقالوا له: «اجلس، فإنَّما أنت أعرابيٌّ لا علمَ لك»، فغضب منهم وقال: «يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصَدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده، لَتَخلنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد»، فقالوا له: «مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به».
وقامت قريش بإرسال عروة بن مسعود الثقفي إلى المسلمين فرجع إلى أصحابه، فقال: «أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك كسرى وقيصر والنجاشي والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً.. والله ما انتخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، ثم قال: وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها».
ثم أسرعت قريش في إرسال سهيل بن عمرو القرشي لعقد الصلح، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل»، فتكلم سهيل طويلاً ثم اتفقا على شروط الصلح، فلما اتفق الطرفان على الصلح دعا رسول الله علي بن أبي طالب فقال له: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم».. فقال سهيل: أما الرحمن، فما أدري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب.
فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم
فقال صلى الله عليه وسلم : «اكتب: باسمك اللهم»، ثم قال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله»، فقال سهيل: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال: «إني رسول الله، وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله».
ثم تمت كتابة الصحيفة على الشروط التالية: «وأن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه.. ويمنعوا الحرب لمدة 10 سنين.. أن يعود المسلمون ذلك العام على أن يدخلوا مكة معتمرين في العام المقبل.. عدم الاعتداء على أي قبيلة أو على بعض مهما كانت الأسباب.. أن يرد المسلمون من يأتيهم من قريش مسلمًا بدون إذن وليه، وألا ترد قريش من يعود إليها من المسلمين»، ودخلت قبيلة خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر بن عبد مناة من كنانة في عهد قريش.
فلما فرغ من قضية الكتاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا، وما قام منهم رجل، حتى قالها ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام ولم يكلم أحداً منهم حتى نحر بدنه ودعا حالقه؛ فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غما».
وافق الرسول صلى الله عليه وسلم على شروط المعاهدة، التي بدى للبعض أن فيها إجحافًا وذلاً للمسلمين، ومنهم عمر ـ رضي الله عنه ـ الذي قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلى، فقال: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذاً؟»، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان مدركًا وموقنًا أن هذا الصلح سيكون فاتحة خير وبركة على المسلمين بعد ذلك.. ثم انصرف رسول الله قاصدًا المدينة.
أنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم سورة الفتح، في طريق عودته للمدينة المنورة، والمسلمون في هم وغم، وقد حيل بينهم وبين نسكهم، فانقلبت كآبتهم فرحًا وسرورًا، وأدركوا أن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام.