ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢٧)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي السابع والعشرين في سيرة حبيب رب البرية محمد رسول الإنسانية بعنوان «العفو عند المقدرة»، فقد تحدثنا في المقال السابق عن فتح مكة وإسلام أبي سفيان، وعاد أبا سفيان لقريش ونادى بأعلى صوته: يا معرش قريش، قد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به، وتعمد الرسول صلى الله عليه وسلم شن الحرب النفسية على أعدائه أثناء سيره لفتح مكة، حيث أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإيقاد النيران، فأوقدوا عشرة آلاف نار في ليلة واحدة حتى ملأت الأفق، فكان لمعسكرهم منظر مهيب كادت تنخلع قلوب القرشيين من شدة هوله، وقد قصد الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك تحطيمَ نفسيات أعدائه والقضاء على معنوياتهم حتى لا يفكروا في أية مقاومة، وإجبارَهم على الاستسلام لكي يتم له تحقيقُ هدفه دون إراقة دماء.
ثم رتب الرسول صلى الله عليه وسلم المجاهدين، وجعل على يمينه خالد بن الوليد، وكان قد أسلم في تلك السنة هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بن عبد الدار، وجعل على الميسرة الزبير، وعلى المقدمة أبا عبيدة بن الجراح، وأمرهم بالدخول في صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان فتعرض لهم نفر قليل، ولم تكن بين الفريقين إلا جولة حتى هزم المشركون.
دخلت قواتُ المسلمين مكةَ من جهاتها الأربع في آنٍ واحدٍ، ولم تلق تلك القوات مقاومة تقريباً، وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربةٌ قاضيةٌ لجنود قريش، حيث عجزت عن التجمع، وضاعت منها فرصةُ المقاومة، وهذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد، ونجحت خطة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فلم يستطع المشركون المقاومة، ولا الصمود أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى، فاحتل كل فيلق منطقته التي وُجّه إليها، في سلم واستسلام.
فلما دخل مكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت فطاف به، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (٨١)} [الإسراء: ٨١]، و«جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ»، والأصنام تتساقط على وجوهها، ورأى في الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت، وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور، وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي يديهما من الأزلام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله؛ لقد علموا ما استقسما بها قط».. ثم أمر بلالاً أن يؤذن ثم طاف البيت واستلم الحجر.
وفي ثاني يوم الفتح أخذ مفتاح الكعبة من صاحبها عثمان بن طلحة الشيبي ثم وقف على باب الكعبة وقال: «لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم يدعى في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد -السوطا والعصا- ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها.. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)} [الحجرات: ١٣].. يا معشر قريش ويا أهل مكة، ما تظنون أني فاعل بكم؟»، قالوا: خيرًا، أخ كريم وإبن أخٍ كريمٍ.. قال صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
ثم رد النبي الكريم مفتاح الكعبة إلى سادنها، فكانت في أعقابه إلى اليوم.. وكان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم، فأراد عليّ أن يكون المفتاح له مع السقاية، لكن الرسول دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة ورده إليه قائلاً: «اليوم يوم بر ووفاء»، وكان الرسول قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول ونال منه، فحلم عنه وقال: «يا عثمان، لعلك ترى هذا المفتاح يومًا بيدي، أضعه حيث شئت»، فقال: «لقد هلكت قريش يومئذ وذلت»، فقال: «بل عمرت وعزت يومئذ»، ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعًا، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطاه مفاتيح الكعبة قائلاً له: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم».
ما هذه السماحة العالية؟! ما هذه الرجاحة السامية؟! ما هذا الخلق الطاهر؟! ما هذا الكمال الوافر؟! ما هذا الإحسان الكامل والعفو الشامل؟! هذه أخلاق النبوة، هذه أخلاق رسول شهد له رب العالمين بأعظم النعوت، حيث قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} [القلم: ٤]، وكفاه ذلك مدحًا وشرفًا.
إن القلم ليحفى دون وصف ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من مكنون الصفات وجليل الهبات، فقل فيه ما شئت من مدح، وانعته بما ترى من وصف حميد، فهو جامع لكل محمدة وشامل لكل فضيلة اتصف بها مخلوق في هذا الكون الكبير.