دار الإفتاء: لا يجوز شرعًا إغلاق جميع الصيدليات والذهاب إلى الصلاة
ADVERTISEMENT
ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية، يقول السائل فيه: يوجد داخل المدينة التي أعيش فيها خمس صيدليات أهلية، وكل هذه الصيدليات تُقفَل للتوجُّه لأداء الصلوات الخمس المكتوبة بالمساجد، وكل صلاة تستغرق من نصف إلى ثلاثة أرباع ساعة حسب بُعد المسجد وقُربِه، وقد يحضر المرضى والمصابون للعيادات التي تقوم على الفور بطلب الدواء اللازم لحالة المريض أو المصاب من الحوادث، والحالات تتراوح ما بين المتوسطة إلى الحالات الحرجة والخطرة التي تتطلب دواءً فوريًّا كمرضى القلب أو الجلطات أو نزيف الدم، وقد حصل معي هذا أكثر من مَرَّة وأُشهِد الله على ذلك، وقد قمت في المرة الأخيرة بتوبيخ أحد الصيادلة، وكان يُقفِل الصيدلية لأداء فريضة صلاة العشاء والتي غاب فيها نصفَ ساعة، مما ترتَّب عليها في حالة المريضِ ما ترتَّب، وقلت له حسب فهمي البسيط -كمواطنٍ مسلمٍ- لدينِ الإسلام: إن إنقاذَ حياة مريضٍ أفضلُ مِن صلاتك في المسجد وقَفْلك للصيدلية؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
ويضيف السائل: وعليه ما حكم الإسلام في قفل الصيدلية وقت الصلاة لأكثر من نصف ساعة وترك الحالات المَرَضِيَّة المذكورة دون أن توجد بين الصيدليات صيدلياتٌ مُناوِبة؟ وهل يجوز للصيدلي أن يؤدي صلاته في مكان عمله ويتابع صرف الدواء للمرضى أصحاب الحالات الحرجة؟
حكم غلق جميع الصيدليات وقت الصلاة
وأوضحت دار اففتاء، أن علاج المرضى وإنقاذ المصابين وإغاثة الملهوفين والمنكوبين من الواجبات الأساسية على المسلمين، ومن هنا فإنه لا يجوز شرعًا اجتماع جميع الصيدليات على الإغلاق وقت الصلاة، ولا سيما لوقتٍ طويل يفوت بمروره إنقاذ من أشرف على الهلاك أو خِيفَ من تَدَهْوُر حالته الصحية؛ لأن في ذلك فواتَ حفظِ النفوس الذي هو مقدَّمٌ في الشرع الشريف على أداء العبادات جماعة، ويجب تعيين إحدى الصيدليات في المنطقة الواحدة لتقوم بواجب توفير حوائج المرضى؛ لأن ذلك مِن باب فروض الكفاية التي إذا عمل بها البعضُ سَقَطَ عن الباقين، وبذلك يسقط الإثم عن الباقين، وإلَّا أَثِم الجميع بترك الواجب، كما أنه لا حرج على الصيدلي في أن يؤدي صلاته في مكان عمله ويتابع صرف الدواء للمرضى، وليعلم أن هذه المُناوَبةَ نوعٌ مِن الرباط في سبيل الله.
وأكدت دار الإفتاء، أنه من المقرَّر شرعًا أن علاج المرضى وإنقاذ المصابين وإغاثة الملهوفين والمنكوبين من الواجبات الأساسية على المسلمين؛ لأنها تعد أهمَّ الضروريات المقاصدية الخمس التي قام على أساسها الشرع الشريف، وهي ضرورة حفظ النفس؛ حيث إنها تدخل دخولًا أساسيًّا فيها؛ يقول الإمام العز بن عبد السلام في كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) في معرض ذكر أمثلة على تقديم الفاضل على المفضول من المصالح سواء كانت واجبة أو مندوبة؛ مُقرِّرًا أن إنقاذ النفس مما قد تُشْرِفُ عليه من خطر هو -قبل كل شيء- تأديةٌ لحق الله تعالى بالحفاظ على النفوس:
[تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين على أداء الصلوات؛ لأن إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل من أداء الصلاة، والجمع بين المصلحتين ممكنٌ بأن ينقذ الغريق ثم يقضي الصلاة، ومعلومٌ أن ما فاته من مصلحة أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك. وكذلك لو رأى الصائم في رمضان غريقًا لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر، أو رأى مصولًا عليه لا يمكن تخليصُه إلا بالتقَوِّي بالفطر، فإنه يفطر وينقذه، وهذا أيضًا من باب الجمع بين المصالح؛ لأن في النفوس حقًّا لله عز وجل وحقًّا لصاحب النفس، فقدَّم ذلك على فوات أداء الصوم دون أصله] اهـ.
الشريعة جعلت حفظ النفس واجبًا
وأشارت دار الإفتاء، إلى أن ضرورة حفظ النفس هذه هي حقٌّ لله تعالى أوَّلًا قبل أن تكون حقًّا للعباد، ولذلك ارتقت الشريعة بها من الحقوق إلى الواجبات، ومن أجل ذلك حرَّم الله تعالى الانتحارَ وإيذاءَ الشخص لنفسه وإهلاكَهُ لها، فقال جل شأنه: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ [النساء: 29-30]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].
وأخرج الإمامان البخاري ومسلم عن ثابت بن الضحّاك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ».
وتابعت دار الإفتاء؛ وعلى ذلك: فكما أن أداء العبادات من حقوق الله تعالى على عباده، فإن حفظ النفوس أيضًا من حقوق الله تعالى على عباده، غير أن حفظ النفوس يزيد على أداء العبادات بأنه يجمع بين كونه حقًّا لله تعالى من جهة، وبين كونه حقًّا للعباد من جهةٍ أخرى؛ قال الإمام العز بن عبد السلام في موضعٍ آخر من (قواعد الأحكام) تَحْتَ فصلٍ عقَدَهُ بعنوان: [الفصل السادس فيما يتقدم من حقوق الرب على حقوق عباده: وليس تقديمُ إنقاذ الغَرْقَى وتخليص الهَلْكَى على الصلوات من هذا الباب، وإنما هو من باب تقديم حق الله وحق العباد على الصلوات] اهـ.
هل يجوز للصيدلي أداء صلاته في مكان عمله؟
وقالت دار الإفتاء: إنَّ على مجموع الصيدليات في هذه القرية أن تنظِّم فيما بينها نوباتِ العمل المُستمِرِّ ليلَ نهار؛ بحيث لا يخلو وقتٌ من العدد المناسب من الصيدليات التي تقوم بأداء هذا الفرض الكفائي، واستقبال الحالات الحرِجة والمفاجِئة، والتي قد تتدهور بالتأخير القليل؛ فإنّ ذلك مِن باب فروض الكفاية التي إذا عمل بها البعضُ سَقَطَ عن الباقين، وإن تركوها كُلُّهم أثِموا جميعًا، وليعلموا أن هذه المُناوَبةَ نوعٌ مِن الرباط في سبيل الله.
وهذا هو ما ينص عليه القانون المصري رقم (127) لسنة 1955م في مادته الثامنة والثلاثين التي تحدد مواعيد العمل بالصيدليات وما يتبعه من الإجازات السنوية والراحة الأسبوعية والأعياد الرسمية ونظام الخدمة الليلية بقرارٍ يصدره وزير الصحة العمومية بعد أخذ رأي نقابة الصيادلة؛ بحيث لا تقل ساعات العمل اليومية عن ثماني ساعات، وبحيث يضمن وجود عدد من الصيدليات مفتوحة في جميع الأوقات.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه لا يجوز شرعًا اجتماع جميع الصيدليات على الإغلاق وقت الصلاة، ولا سيما لوقتٍ طويل يفوت بمروره إنقاذ من أشرف على الهلاك أو خِيفَ من تَدَهْوُر حالته الصحية؛ لأن في ذلك فواتَ حفظِ النفوس الذي هو مقدَّمٌ في الشرع الشريف على أداء العبادات جماعة، ويجب تعيين إحدى الصيدليات في المنطقة الواحدة لتقوم بواجب توفير حوائج المرضى، وبذلك يسقط الإثم عن الباقين، وإلَّا أَثِم الجميع بترك الواجب، كما أنه يجوز للصيدلي أن يؤدي صلاته في مكان عمله ويتابع صرف الدواء للمرضى.