عاجل
الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

الأولويات.. وفقه الواقع

هناك حكمة تقول: «من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور»، بمعنى أنه يجب أن نقدم الأهم على المهم، والأوجب على الواجب، والواجب على المستحب، وإذا كان هناك تساهلًا فيكون فى السنن والمستحبات.

وذات مرة؛ قرأت عن جماعتين فى الولايات المتحدة الأمريكية اختلفوا داخل المسجد على البسملة حتى وصلوا إلى الاشتباك والتراشق بالأحذية، وجاءت الشرطة وطردت الجميع من المسجد وأغلقته بالشمع الأحمر؛ فأين فقه الأولويات بينهما؟

وأتذكر في ما يُسمى بـ «عصر الصحوة» الذي تولت كبره التيارات الدينية في الثمانينات من القرن الماضي، أن هناك طلبة جامعة فى كليات الطب والهندسة والآداب أفتى لهم مشايخهم أن تعلم العلوم الشرعية هو الأفضل، وأن تعلم العلوم الدنيوية ليس مستحبًا؛ فترك بعض الطلبة كلياتهم ووقفوا على أبواب المساجد يبيعون مصاحف، وأسوكة، وعطور، وكتيبات دينية، مع أن هؤلاء الطلبة لو قرأوا فى الفقه لوجدوا أن القرية التي لا يوجد بها طبيب وصيدلي؛ فجميع أهل هذه القرية آثمون.

وهناك كتاب للمفكر حسن حنفي - رحمه الله – عنوانه: (إحياء علوم الدنيا)، على غرار كتاب (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالى، يقول فيه: «إن إحياء علوم الدنيا فرض وواجب»، وأنا أقول إنها فرض مثل الصلاة، وليست مستحبة؛ بل إن الشيخ محمد الغزالي، قال: إن كلمة التوحيد مهددة إذا لم نبرع فى علوم الكون والدنيا والذرة والفلك.

ومرة؛ جاء إلى الشيخ محمد الغزالي، طالبًا يدرس في كلية الطب، ويحمل مراجعًا في الفقه لكي يسأله حول مسألة فقهية؛ فأشاح الشيخ عنه الكتب، وقال للطالب: لماذا لا تنافس أطباء لندن وباريس ونيويورك وتخدم الأمة فى مجالك وتترك الفقه لأهله؟ أيهما أولى أن تحترم تخصصك وتنجح فيه أم أن تشغل الناس بالفقه الذي أنت لست متخصصًا فيه؟ 

إن رسالة الإنسان على الأرض ومقاصد الشرع بل مقاصد كل الشرائع هو عمارة الأرض وتنميتها، وذلك لقول القرآن الكريم: «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» (هود: 61)، أى طلب منكم عمارة الأرض.

وعمارة الأرض لا تكون إلا بالعلم، وإعمال العقل، واحترام الأسباب، والابتعاد عن الدروشة والتواكل والكسل؛ فالسماء محايدة مع الجميع، وقوانين الدنيا لا تحابي ولا تجامل أحد، والسماء لاتمطر ذهبًا ولا فضة، وعصر المعجزات انتهى، والحياة فى سبيل الله كالموت فى سبيل الله، وصلاح الآخرة يأتى من صلاح الدنيا.. هذه هي ثوابت كل الشرائع.

دعونا من التدين المغشوش الذي يقلب شجرة التدين فيجعل من عادات العرب وتقاليدهم وطريقة لبسهم وأكلهم وشربهم - وهى كلها عادات – دين، وينظرون إلي من ترك تلك العادات كأنه ترك ثوابت الدين.

انظروا إلى العالم الآخر؛ فنحن لا نعيش فى العالم وحدنا؛ بل العالم الآن قرية واحدة بفضل ثورة الاتصالات والعلم وللأسف ليس لنا فيها أى دور أو بصمة. العالم الآخر غزا الكواكب والفضاء والبحار والمحيطات وأرسلوا مراكب فضائية للمريخ الذى يبعد عن الأرض بـ 50 مليون كيلو متر، وأوشكوا على العلاج بالخلية الجزعية ودخلوا عصر خوارزمات الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي..

أما نحن فما زال الخلاف على أشده عن الجن الطيار، والجن الحرامي سارق الذهب، والجن الذى يأكله الإنسان، والجن الكافر المتلبس فى الإنسان؛ بل ما زال من يشغلنا بفتاوى لغير الزمان مثل فتوى الولد للفراش، ونحن فى عصر الـ DNA وفتاوى الحجامة والعلاج ببول الإبل، ونبحث عن حلول لمشاكلنا بطرق بعيدة عن العلم مثل هذا مسحور، أو محسود، أو معيون، أو ملبوس؛ فالفرق كبير والبون شاسع والفجوة عميقة بيننا وبين أناس انتهوا من عصر النهضة، إلى عصر ثورة الفكر وعصر ثورة الاتصالات وصولا إلى عصر جيمس ويب والذكاء الاصطناعي والبرمجيات؛ أين فقه الواقع والأولويات؟ هناك من هو مشغول هل المسيحي كافر أم مسلم؟ وهل الشيعي كافر أم مسلم؟ وهل شم النسيم حلال أم حرام؟ وهل عيد الأم بدعة أم حلال؟ وسفاسف الأمور تشغلنا حتى أصبح حالنا يصعب على الجميع. 

فهناك من إذا سٌئل فى فتوى أو مسألة؛ يذهب للبحث فى بطون كتب من ألف عام، وربما يأتى بإجابات لغير هذا الزمان فيضر المجتمع ويتسبب فى كوارث. 

وأوروبا كان لها تجربة قاسية مع الخرافات وتغييب العقل والدجل والشعوذة وصكوك الغفران لمن يدفع ويشتري أرضا فى الجنة والدم والعنف؛ حتى نجوا من كل هذا بعد أن دفعوا فاتورة كبيرة من ملايين الضحايا فى القرون الوسطى، وأقسموا ألا يعودوا إليها مرة أخرى فاستطاعوا تحييد رجال الدين وعزلهم من حتى الأخذ بآرائهم فى الأمور السياسية والعلمية واستنارت أوروبا بفضل تقديم الأهم على المهم والأوجب على الواجب وفهم سلم الأولويات وفقه الواقع.. ونأمل أن نصل إلى عصر ثورتنا الصناعية والفكرية والعلمية.

تابع موقع تحيا مصر علي