عاجل
الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

فرج فوده.. الضمير الحاضر

بعد صعود الخوميني للسلطة في طهران 1979 تغيرت كل حسابات الشرق الأوسط ورسمت خريطة سياسية جديدة وكان مشروع بريجنيسكي مستشار الأمن القومي الامريكي هو خلق منافس ديني بديل للإسلام الشيعي يتم ترويده وصناعته والتحكم في كل مقاليد اللعبة السياسية في الشرق الاوسط من خلال مشروع سني قائم علي عودة دولة الخلافة الأسلامية، وكانت لمصر نصيب الاسد بأعتبارها صاحبة اكبر تعداد بشري في المنطقة وتربة خصبة مما يسهل سهولة الأستقطاب ونشر الافكار العنيفة والتنظيمات المسلحة، وبعد اقل من ثلاث سنوات سقط الرئيس المؤمن الذي فتح الدولة علي مصرعيها وأستقبل المشروع في صفقة تمرير كامب ديفيد، ودفع الضريبة كأول الضحايا ،الرصاصة لم تصيب رأس الدولة فقط بل أرسلت رسالة لكل من تسول له نفسه انه يستطيع ان يقف في وجه هذا التيار العنيف وان رياح الاسلاميين عاصفة لن يوقفها أحد ، واصبحت العاصمة تحت قبضة منابر رجل الدين ولا صوت يعلو فوق صوت الفقيه بالتزامن مع تدفق ملايين الدولارات لنشر الوهابية واحتلال عقل المواطن المصري بأفكار اخرجته من مجرة الزمن وجرفت الوعي المصري والعودة لثياب الخلافة الاسلامية والوقوف امام التمدن وعلمانية الدولة، وخاصة بعد ان خرج الملايين من مجتمع الريف المحافظ الي مجتمعات المدينة والانبهار بأضوئها، فأصبحت المدينة تحت وطأة الفكر الرجعي ، وتحولت المدينة الي منتجع لملايين المحافظين واصبحت تحت وطأة حكم رجال الدين وكلما تعالي صوت الشيخ انخفض صوت المفكر وانخفضت معه اصوات التحرر وتعاليت اصوات القوي الرجعية وخاصة بعد سفر ملايين المصريين لدول الخليج والتأثر بالهوية البدوية العربية بشكل كبير وعند العودة تحولوا لمستثمرين ورجال اعمال وأصبحت هناك نفوذ مادية واعلامية وتنظيمة ترسم خطوط المجتمع الرجعي  ، وتحولت كلمة محافظ الي مجتمع متدين بطبعه علي اعتبار ان الرجعية اهل التقوي والبر والدين في اشارة الي لعنة التحرر واغتياله معنوياً واعتبار كل دعاة التحرر أهل فسق وفجور ليس لهم مكان في وسط المجتمع المتدين بطبعه.

ادرك فرج فوده المشهد السياسي والاجتماعي من الوهلة الأولي، وأدرك تحالف السلطة والاسلاميين لخلق مجتمع بلا عقل او او فكر يستطيعوا ممارسة كل انواع الفساد المالي والديني ضده، وجعل العقلية المصرية عقلية فارغة من اي مضمون يسهل السيطرة عليها في ظل تعليم متدني وفقر مدقع، ودفعت مصر ثمن هذا التحالف وضاع المواطن في صراعات ليس لها قيمة او تمس احتياجاته، ومع التطور الزمني اصبح داخل دائرة مفرغة من الافكار التي ليس معني وصراعات اللاشيئ في انفصال عن مجرة الزمن وخروج من سياق التاريخ والواقع.

رسخ فرج فوده مشروعه الفكري علي أن مهمة الانفتاح هو تحرير عقل الانسان من كل انواع الاضطهاد والاستبداد وبناء قاعدة معرفية يستطيع من خلالها اختيار قناعاته وافكاره واحترام معتقدات ومقدسات الآخرين شريطة ان يحترم المتدينين ايضاً حقوق من ليس علي دينهم.

يقف فرج فوده في المناظرة الشهيرة ويكسر عظام أفكارهم ويسقط القداسة الوهمية ويعري مشروعهم ويهزم كبار مناظريهم بكل قوة وبدون هواده ويأسس فكرة ستطير الي المستقبل وتعيش اطول من حياته ويتورثها جيل فرج فوده.

معركة غير متكافئة يقودها المفكر المصري العظيم المقاوم فرج فوده  لإيقاف الزحف الوهابي المقدس وإنارة الطريق لمجتمع ضرير حجبت عنه رؤية الحداثة والتمدن، يقف فرج فوده في وجه اعتي التنظيمات المتطرفة متسلحين بالرصاص والدولارات والمنابر وملايين البشر وهو لا يملك سوي مبدأ الحوار هو الحل لأن الكلمة اقوي من السيف ، وأن الحوار اقوي سلاح لايقاف نزيف الدماء، فاختار الكلمة واختاروا السيف، واختار السلام واختاروا الدماء ، واجهم بالكلمة وواجهوه بالرصاص.

مشروع فرج فوده كان مشروع صدامي في كافة الأصعدة، صدام اجتماعي وسياسي وديني لذلك تعددت الخصومة في مواجهة فوده وحدث موافقة ضمنية من السلطة في التخلص منه بعدما اصبح منافس سياسي قوي في مواجه مرشحي السلطة وكاشف للنظام الحاكم ، وهو نفس الشخص الذي يصدم المجتمع في تقاليده وعاداته ومورثاته الدينية بفكر مغاير لما وجدوا عليه ابائهم وأصبح منبوذ اجتماعيا ، وعند الاسلاميين أصبح فرج فوده ناقوس خطر يدق ابوابهم بكتبه ومقالاته ومناظراته وانتشاره وسط طبقات اجتماعية، استطاع فرج فوده ان يكون له صوتاً ومنبر عند بعض البسطاء من الناس واتسعت دائرة المؤمنين بأفكاره وبدء تدريجياً يسحب البساط من الاسلاميين وخاصة بعد معركته الاشهر في المناظرة الأشهر وسقوط اكبر مناظرينهم علي يده بالعقل والحكمة والمنطق ويومها أدرك الاسلاميين انه لا مفر سوي التخلص من جسده ولكنهم لم يدركوا الحقيقة الغائبة ان لحظة رحيله كانت لحظة ميلاده وتحويله الي مفكر ملهم لاجيال ويتغني بأسمه كل صاحب ضمير في هذا الوطن وكل باحث عن الحرية وكل من يريد ان ينير الطريق لمجتمع الظلام.

القاهرة في ٨ يونيو صيف ١٩٩٢ يودع فرج فوده هذا الوطن بعد أن ترك لنا اهم إرث لعبور المستقبل وصنع لنا جسر سيعبر عليه المصريين من العصور الوسطى لعصر الحداثة وافكاره التي طارت عبر الزمن ورفضت ان تدفن بجوار جسده لتكون بريق الأمل والنور لهذا الوطن.

تابع موقع تحيا مصر علي