فقه الأسباب
ADVERTISEMENT
شاءت إرادة الله - عز وجل - أن يخلق هذا الكون بسنن ونواميس وقوانين لا تتبدل ولا تتغير إلى يوم القيامة؛ تلك القوانين والسنن لا تحابي أحدٌ ولا تجامله لدينه أو جنسه أو عِرقِهِ، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه السنن وتلك القوانين فى قول الله تعالى: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (الأحزاب: 62)، وفى قوله جل وعلا: «فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» (فاطر: 43).
هذه السنن وتلك القوانين لا تجامل إلا من أخذ بها؛ فلو قلنا: إذا سقط مسلم وكافر فى المياه؛ فمن الذى يخرج منها؟ بالتأكيد من يجيد السباحة منهما هو الذى يخرج، هل يجامل الله المسلم لأنه مسلم؟ بالتأكيد لا؛ فالدين والعرق والجنس لا علاقة له بالأمر فى شيء.
وهل يصح أن أخرج للدبابة بخشبة، وأقول إن الله سوف ينصرنى..! أنت لم تساعد نفسك؛ فالمدفع له مدفع، والدبابة لها دبابة.
وفى يوم أُحد، هُزم المسلمون ومعهم الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم خالفوا السنن وانشغلوا بالغنائم وتركوا جبهة مفتوحة أستغلها خالد بن الوليد، وطوق الجيش وأمطرهم بالسهام.
وفي أيام كورونا، كل كان يُغني على ليلاه؛ هناك من قال: إن من يتمسك بالقرآن فلن تصيبه كورونا، وثانٍ قال: إن من يتمسك بالإنجيل فلن يصاب بكورونا، وثالث قال: إن من يتمسك بالتوراة فلن يصاب بكورونا، ورابع يعيش فى العراق قال: إن من أخذ من تربة الحسين فلن يصاب بكورونا، وكان هو أول من مات بكورونا لأن الفيرس لا علاقة له بديانة الشخص ولا هويته العرقية، الكل أمام المرض سواء.
بل وقع مرة طاعون فى العراق، وذهب اليهود إلى حاخاماتهم يسألونهم فقالوا لهم: كل منكم يلزم بيته، وذهب المسلمون يسألون شيوخهم، فقالوا لهم: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، الأعمار بيد الله، وتواكلوا فكان الموت حليفهم، ومن لزم بيته نجا.
وكما نعرف أن طاعون عامواس فى الشام، مات فيه 15 ألف صحابي، المرض والطاعون لايجامل ولا يحابي أحدًا لدينه.
فى كل شئون الحياة الأسباب والنواميس والقوانين لهم دور ومن ثوابت الدين، بل كل الأديان؛ فالتقدم الحضارى له أسباب، والتخلف أيضًا له أسباب، والنجاح الاقتصادى له أسباب، والإنهيار له أسباب.
وإذا أردنا أن نسقط هذا الكلام على أمثلة فى العالم من حولنا؛ فنضرب مثالًا باليابان دولة صفر الموارد، ليس فيها بترول ولا غاز ولا مناجم ولا مياه ولا أرض زراعية، بل كل ما لديها مجموعة جزر فى المحيط الهادي وفى بحر اليابان، وتقع فى حزام الزلازل المدمر ومع ذلك حققوا المعجزة وأصبحت اليابان من الدول العظمى المصدرة للتكنولوجيا والأجهزة، والعالم يعرف كيف تم ضربها بقنبلتين ذريتين عام 1945 م، وسويت بالأرض، والآن هي من الدول الصناعية السبع فى العالم، وثالث أقوى اقتصاد في العالم، وقد قرأت أن اليابان أعطت مصر فى عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، مساعدات بعشرات المليارات من الدولارات، أعطت مساعدات هذه الأيام لأفريقيا في خلال 3 سنوات بـ 30 مليار دولار..
إنها الأسباب والسنن يا عزيزي، فالتقدم له أسباب واحترام العلم والعقل والأسباب ثالوث استراتيجي في مسيرة حياة أي أمة وبالتأكيد تصعد بقوة الصاروخ إلى العالمية، وإلى مصاف الدول المتقدمة.
ثم ننتقل إلى دولة أفريقية مليئة بالموارد والثروات، إنها السودان، تمتلك مياه النيل وأخصب أراضي زراعية فى العالم، و150 مليون رأس ماشية، ومناجم وغاز وثروات، ولكنهم يموتون فقرًا وجوعًا وأهلها يتصارعون على السلطة حتى فر الملايين من بلادهم ليواجهوا كل أنواع المعاناة، خرجوا مشردين يبحثون عن مأوى آمن، لأن الحرب الأهلية التي تحرق الأخضر واليابس على أشدها وأوشكت السودان أن تكون خارج التاريخ.
إن الفقر هو فقر العقول والتفكير والرؤية، وليس فقر الموارد، وإنما هو عدم احترام أسباب الأرض وقوانينها.
إن للدنيا قوانين، ألف باء فيها: (من جد وجد، ومن زرع حصد)، أي العمل وبذل العرق واحترام العقل والعلم والأخذ بالأسباب.
لقد قرأت عن دول ملحدة لا تعترف بإله، ودخل الفرد فيها 85 ألف دولار؛ ما هذا؟ إنها الأسباب وبذل العرق والعمل الجاد، وهناك دول مؤمنة تواجه الفقر والجهل والمرض، ما هذا؟ إنه عدم احترام ثوابت الحياة القائمة على الأسباب والمسببات.. فهل نعتبر قبل فوات الأوان؟ أتمنى ذلك.