الإفتاء تحسم الجدل: تربية اللحية «عادة» وليست من الأمور الشرعية
ADVERTISEMENT
حسمت دار الإفتاء المصرية، الجدل الكبير الذي يُثار حول حكم حلق اللحية أو إعفائها، وأوضحت الحكم الشرعي لتربية اللحية، وهل إعفائها واجب أمر به الشرع الإسلامي أم ماذا؟ وذلك في معرض ردها على سؤال ورد إليها، يقول فيه السائل: ما حكم إطلاق اللحية؟ وهل هذا الأمر يُعدُّ فرضًا؛ فيأثم حالقها، أو سنة ولا يأثم حالقها؟ وما الدليل؟
اللحية من أمور العادات
وقالت دار الإفتاء: إن المختار للفتوى أن اللحية من أمور العادات وليست من قبيل الأمور الشرعية التي يُقصد منها التعبد، وهذا معتمد مذهب الشافعية؛ وهي من الفروع الفقهية التي وقع فيها الخلاف بين الفقهاء، والقاعدة في ذلك: «أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وإنما الإنكار في المجمع على حرمته».
ومن المقرر شرعًا أن إعفاء اللحية وعدم حلقها مأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان يهذبها ويأخذ من أطرافها وأعلاها بما يحسنها بحيث تكون متناسبة مع تقاسيم الوجه والهيئة العامة، وقد كان يعتني بتنظيفها بغسلها بالماء وتخليلها وتمشيطها، وقد تابع الصحابة رضوان الله عليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان يفعله وما يختاره.
أحاديث ترغب في الإبقاء على اللحية
ووردت أحاديث نبوية شريفة ترغب في الإبقاء على اللحية والعناية بنظافتها، ومنها ما رواه البخاري ومسلم -واللفظ له- عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ؛ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى». ورَوى مسلم أيضًا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ -أي: الاستنجاء-»، قال مصعب -أحد رواة الحديث-: (ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة).
الاختلاف في حكم إطلاق اللحية للرجال
وأكدت دار الإفتاء، أن الفقهاء اختلفوا في حكم إطلاق اللحية للرجال قديمًا وحديثًا؛ بناءً على اختلافهم في المراد من الأمر النبوي في هذه الأحاديث:
فذهب فقهاء الحنفية والمالكية -وهو قول متأخري الحنابلة-: إلى حمل الأمرِ في هذه الأحاديث على الوجوب، وعليه يكون حلقها حرامًا؛ وذلك بناءً على أن الأصل في الأمر الوجوب، ولأن الأمر معلَّل بمخالفة المشركين، والتشبه بهم حرام؛ لما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»، وذلك على اختلافٍ بينهم في تفصيل ذلك.
يقول العلامة الحصكفي الحنفي في كتابه (الدر المختار)، مع (حاشية ابن عابدين): «يَحرمُ على الرجل قطع لحيته». وقال العلامة الشيخ محمد عليش المالكي في كتابه (منح الجليل): «ويحرم على الرجل حلق اللحية». وقال الشيخ البُهُوتي الحنبلي في كتابه (شرح منتهى الإرادات): «ويُعفي لحيته، ويحرم حلقها».
اللحية من سنن العادات وليست من الأمور التعبدية
بينما ذهب الفريق الآخر إلى أنَّ الأمر الوارد في الأحاديث ليس للوجوب، وعليه يكون إعفاء اللحية سنة يُثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها.
وهذا هو قول الشافعية في معتمد مذهبهم، ووافقهم جمع كبير من العلماء والمحققين؛ حيث قالوا بأن اللحية من سنن العادات وليست من الأمور التعبدية، وأن الأمر الوارد فيها أمر ندبٍ وإرشاد.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه (شرح العباب) من كتب الشافعية: «قال الشيخان -يعني: الرافعي والنووي- يُكرَه حلق اللحية». وقال العلامة البكري الدمياطي الشافعي في كتابه (إعانة الطالبين على حَلِّ ألفاظ فتح المعين): «ويحرم حلق لحية». والمعتمد عند الإمام أبي حامد الغزالي وشيخ الإسلام وابن حجر في التحفة والرملي والخطيب وغيرهم: (الكراهة). وهذا هو رأي القاضي عياض من المالكية؛ حيث يقول في كتابه (إكمال المعلم): «ويكره حلقها وقصها». ويقول الإمام شمس الدين عبد الرحمن بن قدامة المقدسي المعروف بابن أبي عمر في كتابه (الشرح الكبير على متن المقنع): «ويستحب إعفاء اللحية».
الأمر بإعفاء اللحية للإرشاد والندب لا للوجوب
وممَّا يُؤيد أنَّ الأمر بإعفاء اللحية للإرشاد والندب لا للوجوب: أنه ليس أمرًا مطلقًا، بل هو مُعَلَّلٌ بمخالفة المشركين، والبعد عن مشابهتهم، وهذا التعليل مقتضٍ للقول بعدم الوجوب من حيث إن مخالفة الكفار ليست واجبة إلا في خصوص ما يتعلق بعقائدهم وخصوصياتهم الدينية، والأمر في الأحاديث الواردة عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم كما يكون للوجوب يكون لمجرد الإرشاد إلى الأفضل.
ويؤيد ذلك أيضًا: أنه جاء في سياق الأمر بخصال الفطرة، وكلها أمورٌ مستحبة، كما نص على ذلك الكثير من العلماء؛ لتَعَلُّق الأمر فيها بالعادات، وتحسين الهيئات، والجمال والنظافة، ومصلحة البدن، ونفي الأوساخ عنه؛ حيث لم يجعلها الشرع على الوجوب؛ اكتفاءً فيها بداعية الطبع عن إيجاب الشرع، ونص العلماء على أنّ تعلق الأمر بواحد من هذه الأغراض هو قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب أو الإرشاد.
وعلى ذلك؛ فقد ذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول بأنَّ الأوامر المتعلقة بالعادات والأكل والشرب واللبس والجلوس والهيئة وغيرها، فإنها تُحمل على الندب لقرينة تعلقها بهذه الجهات.
وقد ذهب إلى القول بذلك بعض العلماء المتأخرين؛ حيث نَصَّ الشيخ محمود شلتوت في كتابه (الفتاوى) على ذلك فقال: «والحَقُّ أن أمر اللباس والهيئات الشخصية -ومنها حلق اللحية- من العادات التي ينبغي أن ينزل المرء فيها على استحسان البيئة؛ فمن درجت بيئته على استحسان شيء منها كان عليه أن يساير بيئته، وكان خروجه عما أَلِف الناس فيها شذوذًا عن البيئة». وكذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (أصول الفقه) حيث اختار أن إطلاق اللحية من أمور العادات وليس من قبيل الشرعيات.
وعلى هذا جرى الأغلب من علماء الأزهر الشريف المعاصرين قولًا وعملًا وهم أئمة الهدى.
واختتمت دار الإفتاء فتواها: «وبناءً على ما سبق: فاللحية من الفروع الفقهية التي وقع فيها الخلاف بين الفقهاء، والقاعدة في ذلك: أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وإنما الإنكار في المجمع على حرمته».