ياسر حمدي يكتب: قمة القاهرة.. والمصلحة العليا للسودان
ADVERTISEMENT
ركزت قمة دول الجوار التي دعت لها القاهرة وعقدت بقصر الإلحادية الخميس الماضي على الإحترام الكامل لسيادة السودان وسلامة أراضيه، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، والتعامل مع النزاع القائم في البلاد باعتباره شئنًا داخليًا، مع ضرورة وقف التصعيد والتزام جميع الأطراف بالوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار لإنهاء الحرب، وتجنب إزهاق أرواح المدنيين والأبرياء من أبناء الشعب السوداني واتلاف الممتلكات.
قمة دول الجوار بالقاهرة أكدت على أهمية الدولة السودانية ومقدراتها ومؤسساتها ومنع تفككها أو تشرذمها وانتشار عوامل الفوضى بما في ذلك الإرهاب والجريمة المنظمة في محيطها، وهو الأمر الذي سيكون له تداعيات بالغة الخطورة على أمن واستقرار دول الجوار والمنطقة بصفة عامة، وضرورة التعامل مع الأزمة الراهنة وتبعاتها الإنسانية بشكل جاد وشامل من أجل التسوية السياسية السليمة، وبذل قصارى الجهد لتوفير المساعدات الإنسانية والإغاثية لمعالجة النقص الحاد في الأغذية والأدوية.
كما ركزت القمة على ضرورة تسهيل نفاذ المساعدات الإنسانية المقدمة للسودان عبر أراضي دول الجوار، وذلك بالتنسيق مع الوكالات والمنظمات الدولية المعنية وتشجيع العبور الأمن للمساعدات لإيصالها للمناطق الأكثر احتياجًا داخل الأراضي السودانية، ودعوة مختلف الأطراف السودانية لتوفير الحماية اللازمة لموظفي الإغاثة الدولية.
إن الوقف الفوري للقتال وإطلاق حوار جامع وإعلاء المصلحة العليا للسودان والشعب السوداني والتزام جميع الأطراف بوقف إطلاق النار والقتال خطوة مهمة نحو استقرار وأمن السودان، وبالتالي أمن واستقرار دول الجوار، لكن الأهم هو تفهم أطراف النزاع لمصلحة السودان نفسه، وإن كانوا قد تفهموا الموقف وبادروا بشكر القاهرة على هذه القمة التي إعتبروها ومعهم المجتمع الدولي أنها كانت الأهم والأشمل، بل والأجدر على لم الشمل وبداية إنهاء الأزمة.
مخرجات قمة دول جوار السودان، التي استضافتها مصر، الخميس، لاقت ترحيبًا من طرفي الصراع في السودان، وهو ما يؤكد أن الحلول دائمًا في القاهرة، فمجلس السيادة الانتقالي شكر مصر على استضافة هذه القمة وعلى البيان الختامي لها، ووصفها بالمهمة من أجل استعادة الاستقرار والأمن في كل أنحاء السودان، مؤكدًا حرصه على العمل مع كل الأطراف الساعية لوقف الحرب، وقد أعرب المجلس أيضًا عن استعداد القوات المسلحة السودانية لوقف العمليات العسكرية فورًا إذا التزمت قوات «الدعم السريع» بالتوقف هي الأخرى عن إطلاق النار ضد خصومها.
على الجانب الآخر، رحبت قوات «الدعم السريع» ببيان القاهرة، وذكرت في ترحيبها أن مخرجات القمة جاءت من أجل تبني الحل الشامل لمعالجة المشكلة السودانية، واصفة هذه الخطوة بأنها تمثل دفعة قوية للجهود المبذولة والمتواصلة من قبل أطراف دولية وإقليمية بهدف التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين من العمليات العسكرية.
قوات الدعم السريع أبدت استعدادها التام للعمل مع جميع الفاعلين في الداخل والخارج من أجل التوصل إلى حل جذري للأزمة السودانية عبر استعادة المسار المدني الديمقراطي لرفع المعاناة عن الشعب السوداني، وهو ما يؤكد أيضًا أن قمة القاهرة غير باقي المبادرات الأخرى كونها خالية من أي دعم لطرف من أطراف النزاع على حساب الأخر، فقط تحيزت مصر تجاه السودان ومقدراته واستقراره وأمن شعبه.
ردود الفعل تلك يُضاف إليها وصف صحيفة «واشنطن بوست» لقمة القاهرة بأنها الأبرز بين مساعي تسوية الأزمة، وذكرت أن طرفي الأزمة اتفقا في السابق على ما لا يقل عن 10 هدنات، لكنها انهارت جميعها، وكأنها تعقد لتنهار، وهو تأكيد أيضًا على أن صوت القاهرة هو المرحب به في السودان.
لن أكون مبالغًا إذا قلت إنني أشعر بأن شيئًا إيجابيًا يسوى على مهل، وإنه إذا كانت هناك اتفاقات بهدنة لوقف إطلاق النار، لابد أن تكون من القاهرة وفي القاهرة، لأنه منذ الأسبوع الثاني من بداية الصراع ودول وأطراف عالمية وإقليمية تعقد محادثات لوقف إطلاق النار، لكن الآمال في وقف الأعمال القتالية في السودان وكان آخرها خلال عطلة عيد الأضحى جاءت وذهبت من دون تراخٍ في وتيرة العنف.
بالطبع القتال كان يتطور كل يوم، والهدنات المختلفة لا تصمد وكان يتم خرقها والأوضاع الإنسانية في غاية التردي، الطرفان المتحاربان غير قادرين على الحسم العسكري الكامل، وبالتالي فكان أحد السيناريوهات المطروحة أن يستمر القتال لشهور أخرى وربما لسنوات، وهو ما قد يقود إلى ظهور وضع لا يختلف عما حدث في الصومال أو ليبيا أو سوريا في بدايات الأزمات، بمعنى أن يسيطر كل طرف على مجموعة من الولايات المختلفة ويتقاسم الطرفان مناطق مختلفة في العاصمة الخرطوم.
وهو ما قد يقود بدوره إلى ظهور جماعات وميليشيات مسلحة مختلفة بجانب القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ترتبط بقبائل أو دول جوار أو دول إقليمية ودولية وبالتالي نكون بصدد ظهور مصطلح جديد وهو «السودنة» على غرار اللبننة والصوملة أو الأفغنة، إذا حدث هذا السيناريو لا قدر الله فإن دول جوار السودان بأكملها ستدفع الثمن الأكبر بعد الشعب السوداني، وستكون مصر في مقدمة الخاسرين.
قد تكون «القاهرة» تأخرت، وانتظرت مضي ثلاثة أشهر على إطلاق الرصاصة الأولى، ربما لاعتبارات معقدة، تأخذ في اعتبارها حساسية أطراف سودانية موبوءة، وقد بدت الدولة المصرية حريصة على لغة تهدئة وحياد معلن، برغم أنها المتضرر الأكبر من النار التي تأكل السودان، ليس فقط بحكم المصالح والروابط الاستراتيجية والنيلية التي تجمعها مع السودان، بل بآثار الحرب المجنونة الجارية، التي قتلت إلى اليوم آلافًا مؤلفة، وشردت الملايين من النازحين واللاجئين، كان طبيعيًا أن يتزاحموا على أبواب مصر الجنوبية.
وصل عدد اللاجئين السودانيين الجدد في مصر إلى قرابة 300 ألف، يضافون إلى نحو خمسة ملايين سوداني مقيم في مصر قبلها، برغم إجراءات التنظيم وربما التقييد، التي تراعي مضاعفات أزمة إقتصادية يعانيها المصريون، فوق أثقال وتبعات ما يجرى في السودان، وتقييده لحركة السياسة المصرية تجاه مشكلة سد الخراب الأثيوبي، وبرغم حسن وفادة المصريين للأشقاء من السودان، كما مع ملايين الأشقاء العرب والأفارقة اللاجئين، إلا أن إمكانية تسلل عناصر تشكل خطرًا على الأمن القومي، ولكن العنصر الأكثر خطورة في حالة استمرار الأزمة السودانية من دون حسم هو أن تتحول السودان إلى دولة فاشلة، تتمركز فيها ميليشيات وتنظيمات داخلية وخارجية تكون منطلقًا لتهديد الأمن القومي المصري، الأمر الذي دفع السياسة المصرية المتباطئة إلى نوع من التحرك الحذر، زادت ضروراته بعد فشل وساطات دولية وإقليمية وأفريقية، كان آخرها وساطة منظمة «إيجاد».
حياد مصر تجاه الأزمة السودانية، وتمسكها بضرورة عدم تدخل أي دولة في شؤون الخرطوم الداخلية، وحرصها البالغ على وحدة السودان والحفاظ على هويته ومقدراته، وخوفها الشديد على أرواح الابرياء من الشعب السوداني، ودعمها الواضح والمؤكد لأمن وإستقرار الدولة السودانية فرض على جميع الأطراف المتنازعة السماع لصوت القاهرة، وجعلهما يتسارعان في الترحيب والتقدير بمخرجات القمة، ويتحلى الطرفان بصوت العقل، ويعلنان التمسك بالمصلحة العليا للسودان، والأهم أنه جعل قمة «القاهرة» الأهم والأجدر على حل تلك الأزمة بشهادة أطرافها ومعهم المجتمع الدولي ومنظماته.
بالطبع، أنا لا أقرأ الغيب، ولا أعلم ما سيدور في المستقبل، فضلًا عن أنني لا أجد ضمانات تاريخية ومنطقية بأن ما يحدث في السودان سينتهي قريبًا، إلا أن مخرجات قمة دول الجوار في مصر، والترحيب بها من أطراف الصراع، يشيران إلى استعداد الفصائل نفسها إلى الاستماع إلى صوت القاهرة، وهو أمر مهم لابد أن يدركه الجميع، سواء كانت الأطراف التي تتدخل لوقف النزاع، أو القاهرة نفسها، فصوت القاهرة دائمًا مرحب به عند الجميع.
أخيرًا: من المؤكد أن مصر لا يمكنها تحمل وجود ميليشيات وعصابات مسلحة في السودان الشقيق حفاظًا على وحدته وسيادته واستقراره أولًا، ودفاعًا عن أمن مصر القومي ثانيًا، وبالتالي فالمفترض ألا نسمح بكل الطرق المتاحة لانزلاق السودان إلى سناريو الحرب والهلاك وضياعه وخرابه وإستغلال أطراف معادية لمصر لزرع الميليشات الإرهابية لتهدد الأمن القومي المصري ومعه دول جوار السودان.