ياسر حمدي يكتب: في رثاء محمد فايد
ADVERTISEMENT
هذا الصباح مُرّ في فمي، تتدحرج الذكرى بين زوايا العتمة، وخواطر البوح، وتباريح السفر، لا الدمع يكفكف الآم الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفف لوعة الفقد، ولا التوقف عند محطات الرفاق يجلب شيئًا من السلوى، للموت جلال أيها الراحلون، ولنا من بعدكم انتظار في محطات قد تطول وقد تقصر، وقد ترهق وقد تصفو، وقد تُضحك وقد تبكي، حتى يقدم بلا هيبة أو تردد، يختارنا واحدًا اثر آخر، «لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون».
هذا الصباح مر في فمي، كل ما حولي يوحي بالذبول، حتى الكلمات تتحشرج فأستعيدها من قاع التردد لتبقي على خيط الحياة المدود.. ومن يك ذا فم مر مريض، يجد مراً به الماء الزلالا.. للموت جلال أيها الراحلون، كما له مرارة وألم وشعور بالغ بالفقد، نحن وحدنا من تمتد به الحياة نبكيكم، ونذرف الدمع في وداعكم، ونشيعكم لمثواكم الأخير، ونحن لا نكاد نصدق أننا لن نراكم بعد اليوم.
لماذا يثير الموت هذه الرهبة الكبرى؟ ولماذا نبكي الراحلين وقد امتدت بهم مراحل أخرى لمحطات أخرى انتظارًا لحياة أخرى، ونحن سائرون إليها شئنا أم أبينا؟ إننا في الحقيقة لا نبكيهم لأنهم رحلوا، بل نبكي أنفسنا لأنهم تركونا وحدنا، إن كل الآمنا ودموعنا وفرقنا وقلقنا لأننا لن نراهم بعد اليوم في دنيانا، وقد كانوا بعض سلوتنا أو جزءًا من حياتنا أو بقية من رفاقنا، إننا نبكي من أجلنا نحن، لا من أجلهم، لأنهم رحلوا، فلن يشعروا ببكائنا، ولن يستعيدوا شيئًا مما مضى، ولن يكون بمقدورهم أن يصنعوا شيئًا لأنفسهم أو لنا.
نحن إذن من يجزع لأن الراحلين انطفأت شموعهم في حياتنا، ولأن رحيلهم إعلان كبير بأن قطار العمر ماض، والأيام حبلى والقدر محتوم.. وللموت جلال أيها الباقون.. وقد حدثتني نفسي وأنا الخبير بها، مالي أراك جزعا؟ ألم تكن أشد من اليوم تجلدا وصبرا، مالي أراك اليوم ضعفا على ضعف حتى تكاد تتهاوى؟ وما برحت تلك النفس تؤنبني، وكأني خصمها إذا ترقرق الدمع، أو ارتج الأمر، أو تلعثمت الكلمات، أو انصرفت عن عالمي وكأني في ساعة المآل ولحظة النهايات التي لا ريب فيها.
وتذكرت شيئًا قرأته يومًا لإبراهيم المازني، هذا الأديب الرائع الذي رحل وهو على مشارف الستين، وترك تراثًا جميلًا مازلت أستعيده ما وجدت إلى ذلك سبيلا.. يقول المازني بعد أن بلغ الخمسين في كتابة «قصة حياة»: «وطال تفكيري بالموت، وخامرني خاطره، فهو لا يفارقني في يقظة أو منام، وإني لأحلم به وإن كنت بلطف الله أصبح ناسيا ما تراءى لي من الصور والأحداث في رقادي، وما غمضت عيني ليلة إلا وأكبر ظني أن افقد نفسي فلا أعود إلى الشعور بها».
لقد أخذ هذا الهاجس «المازني» حتى أرقه، وهو الذي لم يكن يتسلط عليه أو يربك منامه أو ينال من صفائه، إلا أنه روض النفس على القبول به والإيمان الكامل بمقتضى أن الرضا بالموت خير من الجزع منه، والإيمان به خير من التوهم بقدرة صده أو تأجيل قدره المحتوم.
فهو يعود ليقول لنفسه: «يا هذا، لقد تجاوزت الخمسين، فأنت الآن في المنحدر، كنت على جانب آخر من جهل الحياة.. يصرفك ما في الصعود من مشقات وما يتقاضاك من جهد، وما تأخذه عينك من صور ومناظر عن التفكير بالذروة وما بعدها، فالآن أشرفت على الجانب الآخر، ولا مفر لك من النزول، وعبث باطل ليس يجدي أن تخادع نفسك، وتوهمها خلاف ذلك، وقد يتيسر لك أن تقف هنا قليلًا، وتتلبث هناك لحظة، ولكن الانحدار مهما طال الوقوف، لا مهرب منه.. فما قولك في رياضة النفس عليه؟ تروض نفسك على الموت.. على الاطمئنان إليه، على السكون إلى ما يهولك عنه، والرضا به، واعلم أن هذا لا ينفي حرصك على الحياة وضنّك بها، وكل ما فيه أنه يعدك لما بعدها.. فمن أصالة الرأي أن تتهيأ له، وسينفعك هذا، ومواجهة الحقائق أولى على المرء من تجاهلها والمكابرة فيها».
ثم يعود مجيبًا عن سؤال البدايات: «إني لم أسأم الحياة ولم أزهد فيها، ولا فترت عنها، بل أنا أطلب لها، وأقوى رغبة فيها مما كنت في أي عهد مضى، ولست آنس من نفسي عجزًا عن مسايرة الدنيا والناس، فإن الأمر على النقيض، وأحسب أن الرغبة في الحياة تقوى مع إرتفاع السن، وقلما يتلفت الشاب إلى الحياة وطولها أو قصرها، أو يفكر في أنها إلى زوال، لأن ما يحسه من فيض الحيوية لا يجعل له بالًا إلى شيء من ذلك، ولأنه يكون مشغولًا بإنفاق هذه الحيوية الزاخرة عن كل أمر أو حال آخر.. ثم ينقضي الشباب فيسلس التدفق وتخف وطأته ويزداد شح المعين على الأيام، فيتسنى للمرء أن يفكر بعقله وينظر بقلبه وأن يدير عينيه في الماضي، والحاضر، وأن يمد بصره في المستقبل ويرى أنه يدلف إلى النهاية، فيفرق ويشفق ويجزع».
إن هذا التفسير «المازنيّ» ربما يجيب عن تلك النفس القلقة، التي ترى الجزع على مشارف الخمسين هو ردة عن حيوية الشباب المبكر وانصراف العقل والقلب عن التفكير بالنهايات، التي تبدأ من لحظة بلوغ المنحى الآخر من العمر، وهي مرحلة لا أشك أن ممن يعيشونها يلاقون منها ما يلاقون من الفرق والجزع عند رحيل بعض أهلهم وأحبائهم وأصدقائهم، أكبر بكثير من أولئك الذين يصعدون منحنى العمر من بدايته ولم تدرج أقدامهم بعد على سفح المنحنى الآخر.
وإني لا أشك لحظة أن للموت رحمات بالأحياء قبل أن يكون بردًا وسلامًا على المؤمنين الراحلين، فمن رحماته أنه يدرأ الشر والظلم عن نفوس جبلت على القلق من حتمية النهايات، ويستعيد نفوسًا أخرى لمواطن البذل والعطاء والتسامح لأنها مدركة إنه حق لا ريب فيه، وهي النفوس التي جبلت على الخير، وإلا فكثير من القلوب قُدّ من صخر أو حديد، لا ذاكرة الموت تنفعهم ولا انحدارهم من قمة العمر لأسفله يوطن نفوسهم على بذل الخير أو كف الظلم والأذى.
وقد لا يعني القارئ أي صديق أرثي اليوم، لأنه قد لا يعرفه، ومن يعرفه حق المعرفة قلة من أصدقائه ورفاقه ومحبيه، وأنا حتى اللحظة لم أكتب رثاء في صديق وإنما كنت أرثي الأحياء قبل الأموات، والباقين عوضًا عن الراحلين.
لقد أثارت فاجعة رحيله ومفاجأتها غصة في الحلق، وانحسارًا لمدد الرفقة الجميلة، وانطفاء لومضة نبل إنساني، وإذا إجتمع في المرء النبل وحب الخير وكرامة النفس والوقوف عند الحق فقد ترك الدنيا وهي أحسن مما وجدها، وفي هذا عزاء لنا وأي عزاء.
وإني كلما خطرت على نفسي خواطر الرحيل، أو مر ذكر راحل ترك الدنيا أحسن مما وجدها، وجدتني مع الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي أستعيد عبارته الخالدة: «اعمل عملك يا صاحبي، فإن لم تزد شيئًا في الدنيا كنت أنت زائدًا عليها، وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فما وجدتها وما وجدتك».
وأشهد الله أن الصديق الحبيب المخلص محمد فايد محمد الشاب الجميل الطيب ترك الدنيا أحسن مما وجدها، فلم تكن حاجته وضعف حيلته في أول حياته وصروف الإنهاك التي مر بها أو مرت به، إلا دافعًا جميلًا لصنع الخير عندما أدركته الدنيا، وإن فيه خصلتين أقدرهما أيما تقدير: «كرامة النفس ونُبل المقصد».. لقد رحل عن الدنيا وهو زائد فيها، ولم يكن زيادة عليها، وقد تركها أحسن مما وجدها.. للموت كرامات ورحمات أيها الباقون.. و«إنا لله وإنا إليه راجعون».