ياسر حمدي يكتب: عظمة 30 يونيو
ADVERTISEMENT
ثورة الثلاثين من يونيو غيّرت مستقبل الشرق الأوسط بأكمله وأفسدت سيناريوهات تم إعدادها طوال سنوات طويلة سبقت ٣٠ يونيو، ولعل ثورة يونيو تتشابه في هذا مع ثورة ٢٣ يوليو التي غيرت شكل الوطن العربي بكامله، ومثلت نموذجًا احتذت به الشعوب العربية كلها في سعيها نحو حلم النهضة المشروع، بغض النظر عما آلت إليه الأمور ومسئولية الأطراف المختلفة عنها.
ولم يتوقف تأثير يونيو على إفشال مخططات حكم الإخوان وحلفائهم للوطن العربي وتهديدهم الصريح لدول الخليج الشقيقة وإسقاط حكم الإخوان في تونس وإفشال مخططاتهم لإسقاط الدولة السورية وإيقاف الأمور في ليبيا عن التدهور في إتجاه حكم الميليشيات بقدر الإمكان، بل امتد أثر دعوة يونيو لإصلاح الخطاب الديني وتحريره من اختطاف المتطرفين لدول عربية عدة وكبرى وذات تأثير كبير في عالمها ومحيطها انطلقت في طريق إصلاح الخطاب الديني بعد أن أشعلت مصر الشرارة الأولى.
أحد أسرار عظمة ثورة ٣٠ يونيو، هو بديهيتها وبساطتها معًا، إنها بمثابة إعادة الشىء إلى أصله؛ أو رد الروح إلى الجسد بعد غياب ثوانٍ قليلة تحلق فيها خارجه ثم تعود، إن ثورة ٣٠ يونيو كانت إصلاحًا لعوج طارئ، وإزالة لنتوء ظهر فجأة في طريق المصريين، وهي عندي ترتبط إرتباطًا وثيقًا بثورة الخامس والعشرين من يناير من حيث التقائهما في الهدف واختلافهما في الأسلوب أولًا، ومن حيث أن يونيو كانت إصلاحًا لأخطاء يناير من ناحية ثانية.
لعل أبرز إنجازات ٣٠ يونيو أنها حافظت على الدولة الوطنية المصرية الحديثة التي أسسها محمد علي باشا عام ١٨٠٥، وأعاد جمال عبدالناصر تأسيسها في ١٩٥٢ وارتبط المصريون بإنجازاتها وغفروا لها هناتها إيمانًا منهم بوطنيتها وحفاظها على حياة المصريين، وقد استمرت دولة يوليو بصيغ مختلفة حتى سيطر الإخوان على مصر بالتدريج خلال عامين ونصف وبدأوا في محاولات شريرة وغبية لتفكيك مؤسسات الدولة المصرية وتغيير طبيعتها والاستيلاء عليها من الداخل باختراقها، ومن الخارج بتكوين ميليشيات مسلحة عبر عناصر مقربة منهم مثل الجماعة الإسلامية وحازمون وغيرهما من الميليشيات الإرهابية التي كانت تتجهز لإشعال الحرب الأهلية خلال شهور قليلة على نمط الجيش الحر في سوريا، بدعوى أنها أكثر ثورية من الرئيس المعزول الراحل، الذي كان يتظاهر بالامتثال لمؤسسات الدولة الوطنية وإحترامها ظاهريًا.
وبالتالي فإن ٣٠ يونيو أنقذت مصر من حرب أهلية مؤكدة كان يسعى لها إرهابيون موالون للجماعة مع الحرص على أن يكونوا من خارج جسدها التنظيمي ظاهريًا، وكان يترافق مع هذا المخطط الشرير مخطط آخر لأخونة الدولة المصرية وزرع العناصر الموالية للإخوان في كل مكان بنية الاستمرار المؤبد في الحكم أو البقاء لمدة خمسمائة سنة قادمة، كما صرح أحد قيادات الجماعة للرئيس السيسي وهو يحذره من عواقب سياسات الإخوان.
وكان يتم التمهيد لهذا بإساءات متتالية للجيش المصري الوطني ومحاولة زعزعة صورته في عيون المصريين وهو عمود خيمة الدولة المصرية وركيزتها الأساسية، سواء منذ عهد الفراعنة العظام أحمس ورمسيس وتحتمس أو بعد إعادة تأسيسه في العصر الحديث وتسميته بجيش الفلاحين على يد قائده إبراهيم باشا صاحب الانتصارات المشهودة في التاريخ.
ودون مبالغة فإن سيناريو الحرب الأهلية لم يكن بعيدًا جدًا عن مخطط «تقسيم المقسم» والذي يحتفظ به الغرب في أدراجه منذ رسمه المستشرق البريطاني الأمريكي «برنارد لويس» الذي يرى أن مصر والوطن العربي كله يجب أن يقسم إلى دويلات صغيرة على أسس عرقية ودينية وطائفية، وأن ذلك وحده ما يضمن أمن إسرائيل وراحتها.
ولم يكن هناك مبرر أفضل من حكم الميليشيا الدينية لتبرير تقسيم مصر إلى دولتين أولًا على أساس ديني ثم إعادة التقسيم مرة أخرى على أساس عرقي «النوبة والأمازيغ وسيناء»، وقد داس المصريون هذا المخطط بأقدامهم في ٣٠ يونيو، وخرج الشعب المصري بكل طوائفه يدًا بيد ضد الإخوان في الميادين، وقد بلغ عددهم أكثر من الثلاثين مليون منددين بحكم الإخوان.
وقاوم أهل سيناء الحبيبة الإرهاب بصدورهم كتفًا بكتف مع أبطال الجيش المصري، وواصل الجميع ذوبانهم في السبيكة المصرية الواحدة التي لا تعرف فيها الصعيدي من البحيري، ولا النوبي من الأسواني ولا المسلم من القبطي في أي مدينة أو قرية من قرى مصر.
الحقيقة في حساب إنجازات ثورة ٣٠ يونيو يجب ألا ننظر فقط إلى الإنجازات الصلبة من تعمير وصناعة وزراعة.. إلخ، ولكن يجب أن ننظر، أيضًا، إلى الإنجازات المعنوية أو الحضارية أو الفكرية والسياسية، التي يمكن تلخيصها تحت عنوان عريض هو الحفاظ على وحدة الأمة المصرية، والقضاء على الأخطار التي كانت تتهددها، والتي تزايدت في سنوات ما قبل يونيو بفعل شيخوخة الدولة من جهة، وتصاعد نفوذ قوى التطرف من جهة، وتصاعد مخططات التدخل الأجنبي من جهة ثالثة، ولعل من أهم ملفات ٣٠ يونيو التي أنجزتها ملف «الوحدة الوطنية» أو العلاقة بين المصريين بعضهم البعض مهما اختلفت دياناتهم ومذاهبهم.
كما لا يمكن إغفال المصالحة التاريخية التى قام بها الرئيس السيسي مع النوبيين المصريين الذين عانوا ظلمًا تاريخيًا منذ بناء خزان أسوان عام ١٩١٢ ثم السد العالي، ولم يكن لهذا سبب سوى صدفة وجود بلادهم في أراضٍ تتعارض مع مشروعات السدود والخزانات، وكان سر الإحساس بالظلم أن الدولة تباطأت في كل العصور عن تعويضهم عما لحق بهم من ضرر مادي ومعنوي.
وهو الأمر الذي قام به الرئيس السيسي الذي عوضهم ماليًا ومنحهم أراضي بديلة في وادي كركر، وقام بأول زيارة يقوم بها حاكم مصري للنوبة منذ عقود طويلة، يدفعه لهذا رغبته في رفع الظلم أولًا، ووعيه بمخططات تقسيم مصر التي تطبخ على نار هادئة منذ سنوات طويلة ثانيًا، وهي مخططات عطلتها ثورة ٣٠ يونيو إن لم تكن أفشلتها بالكامل، وإن كان أصحابها يطلون برأسهم من حين لآخر كما نرى جميعًا، أما على مستوى البنية الداخلية للدولة المصرية فقد جددت ثورة ٣٠ يونيو شبابها وأنقذتها من حالة شيخوخة مزرية كادت تودي بها، ومن حالة ركود أدت لأن يضج الناس نفسيًا قبل أن يتباكى البعض على الأحوال ويقول إنه كان في نعمة لم يقدرها.
والحقيقة أن الركود كان سيقود إلى حالة أسوأ بكثير جدًا جدًا من إرتفاع الأسعار الحالي الذي نشكو منه جميعًا، وأن حالة تيبس المفاصل التي عانت منها الدولة المصرية، وقتها كانت ستتحول إلى حالة شلل تام يُمكن الإرهابيين من السيطرة على مفاصل الدولة كلها، وهو ما شرعوا فيه لولا ثورة عظيمة اسمها ٣٠ يونيو، ولعل هذه صفحة واحدة من كتاب كامل عن عظمة هذه الثورة وفرادتها وتميزها يحتاج المصريون جميعًا إلى أن يقرأوه في قادم الأيام.