ياسر حمدي يكتب: الوطنية بين الانتماء والولاء والوفاء
ADVERTISEMENT
من يتتبع الاتجاه الأساسي الذي سلكته قيمة الانتماء في حياتنا المعاصرة يجد أنها قد تعلقت بمسألة «الوطنية»، فجميعنا آمن بأن الانتماء إلى الأوطان، أرضاً وتاريخاً وحضارة، يمثل شحنة عاطفية وروحية تدفع المرء إلى العمل الجاد والمشاركة البناءة في سبيل تقدم ورفعة وطنه، وأن جسده وروحه فداء بلاده، وأنه بغير هذا الشعور قد ينزلق الإنسان في الاتجاه المضاد، ويصبح متطرف التفكير والسلوك، بل قد تثار علامة استفهام حول هدف حياته.
هناك مفاهيم مرتبطة بالانتماء أو تمثل درجة من درجاته، مثل الولاء، والالتزام، والوفاء، والولاء ينبع من الحب التلقائي، المجرد من المصلحة، الذي يجعل الفرد يميل إلى التحدث والتصرف في القضايا العامة لوطنه والدفاع عنها، أما الالتزام فهو شعور بمسؤولية أخلاقية تجاه الوطن تجعل الفرد يؤدي واجبه على أكمل وجه، ويحترم القانون، ويضحي بنفسه فداء لقضايا وطنه وشعبه، ويقدم الغالي والنفيس في سبيل رفعة هذا الوطن وتقدمه بين الأمم، ويحمي حدوده وترابه بكل ما اوتي من قوة.
والوفاء فهو خصلة إجتماعية خلقية تتمثل في التفاني من أجل الوطن أو أي شيء يتعلق به بصدق خالص، والوفاء أصل الصدق؛ وقيل في الفرق بين الوفاء والصدق: هما أعم وأخص، فكل وفاء صدق، وليس كل صدق وفاء، فإن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول، ولا يكون الصدق إلا في القول؛ لأنه نوع من أنواع الخبر، والخبر قول، والوفاء يؤكد على أواصر التعاون في المجتمع، ويحقق الأمان لأفراد الوطن الواحد، فلو قام كل فرد بأداء ما عليه من حقوق وواجبات، تحقق الأمن والإستقرار بين أبناء المجتمع.
الوطنية والانتماء للوطن، من صفات المواطن الصالح، التي تبذل الأمم والشعوب الحية جهودها وتسخر طاقاتها لإعداده؛ لأن هذه القيم السامية العليا ضرورة وجود للأوطان ومناعتها، وهي تتجلى في أوقات الشدة عندما تحيط الأخطار بالأمم والشعوب سواء كانت أخطاراً خارجية أو داخلية، والثانية أكثر ضرراً وإيذاءً وتدميراً للأمم والأوطان، وهي تجد دائماً في ضعف قيم الوطنية والمواطنة والإنتماء بيئة خصبة لها بما تتيحه هذه البيئة من ظروف تعين المفسدين والمخربين على العبث بالأوطان والأمن وإشاعة الفساد والاضطراب والخلاف، كما يحصل في الوقت الراهن في بعض الأوطان التي وصل الحال فيها إلى حروب مدمرة تأكل الأخضر واليابس، وهي مع الأسف الشديد تكون معظمها بيد من ينتسبون إليها، والذين ينبغي أن يدفعهم الانتماء لوطنهم إلى حمايته من الخطر لا جلبه له.
يقول الشاعر: «بلادي وإن جارت علي عزيزة.. وأهلي وإن ضنوا علي كرام»، قمة الإنتماء والولاء والوفاء للوطن والأهل فيما جسده هذا الشاعر في هذا البيت العظيم، فمهما كان حال بلدي وتأثرت به حياتي الإقتصادية والإجتماعية يظل هذا الوطن عزيز وغالي حتى لو جار على حالي كله سيظل انتمائي له ووفائي به كانتمائي لأهلي رغم قسوتهم وبخلهم فهم أهل كرم وسخاء لا يضاهيهم أهل ولا يغني عنهم حبيب، فلن ولم يتخل الفرد عن أهله تحت أي ظرف، فهم شرفه وعرضه وكرامته ولا يستطيع أن يستغني عنهم، وكذلك الوطن غالي وعزيز تحت أي ظرف.
أما أمير الشعراء أحمد شوقي فيقول: «وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه.. نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي».. نعمة عظيمة لا يحسن الناس شكرها، هي نعمة الوطن، الأمن،الأمان، الاطمئنان، الاستقرار، حقًا الوطن الآمن، منحة ربانية يعلم قدرها تمامًا، وبكل ألمٍ وحزن، من ضاعت أوطانهم، فتعثرت حياتهم، وتوقفت آمالهم، اشتاقوا لأرضهم، لذويهم، لبيوتهم، لقراهم التي كانت مطمئنة، حلمهم ليلًا ونهارًا، كيف يعود الماضي الجميل؟ ومتى؟!.
سؤالهم الدائم، من هؤلاء المجرمون الذين أفقدونا هذه المتعة الرائعة، وهذا الشرف العظيم؟ وكانوا سببًا في خرابٍ بعد رخاء، وعسرٍ بعد يسر، وذلٍ بعد عز؟ فقدنا بسببهم الأحبة، ولسان حالهم، نحن نعيش مواطنين من الدرجات الأدنى، في بلادٍ أخرى، تحنو علينا مرة، وتقسو مراتٍ، تسمع آذانهم من يقول: من أتى لبلادنا بهؤلاء؟ ولماذا نتحملهم؟ ومتى يعودون؟ كلمات، ليست كالكلمات، إنها سهام تصيب قلوب الأحرار، لا يستطيعون دفعها، ولا يملكون قوة مقاومتها، وما تحدثه الكلمة، تحدثه النظرة، نظرة المستعلي القوي، على المسكين الضعيف.
وماذا بقى للإنسان إذن؟ إن علينا جميعًا نحن أبناء مصر، أن نتكاتف لنحمي وطننا، ونضحي من أجله بكل شيء، فنحن بدونه لا قيمة لنا ولا شيء، نختلف كيف شئنا، ولكن ننبذ الخلاف، ولا نتنازع، فنفشل، وتذهب ريحُنا.
الوطن كالأم، حبك وانتمائك ووفائك وعطائك لأمك من فطرة الله التي فطرها على بني البشر وكذلك وطنك، فأنا أرى أنا أمي هي الأفضل وأنت كذلك ترى أمك هي الأفضل، فقد تكون والدتك على قدر بسيط من العلم والمال وأم غيرك حاصلة على درجة الدكتوراه على سبيل المثال وتمتلك ثروة كبيرة، لكن كلاهن تحب ابنها بنفس الدرجة ونفس الشعور والإحساس والإلتزام بالمسؤولية، وتتمنى له أن يكون الأفضل على الإطلاق، وتبذل كل الجهد بكل ما أوتيت من قوة كي تقدم لوليدها سبل الدعم والراحة والامان حتي ينعم بالسخاء والرخاء، أمك وأمه درجة حبهن وخوفهن واحدة تجاه اولادهن، لكن تسعى كل واحدة منهن على قدر إمكانياتها حتى توفر لاولادها السعادة، فهل تحب أمه بسخائها وعلمها أكثر من أمك؟! قطعًا لا.
يبالغ كثير من الناس في التعصب لآرائهم، ويظنون أنهم على الحق المطلق دائمًا، وغيرهم على الباطل، وأنهم وحدهم، دون غيرهم، الذين يملكون الحكمة وفصل الخطاب، يغفلون رأي الأخر ولا يبالون له، يتمسكون برأيهم دون النظر للرأي الأخر، ومن هنا ينشأ التطرف، وعليه وبسببه يتصارع أبناء الوطن الواحد.
إن التعصب يشكل ثغرة واسعة ينفذ منها العدو الطامع إلى الصفوف المتراصة والمنتظمة فيمزق وحدتها ويبدد شملها ويفرض سلطانه عليها، ويجد في التعصب تربة خصبة يبذر فيها بذور الشقاق.. ولذا فإن الشخص المتسامح غيور على وطنه، حريص على تجنيبه الأخطار، وخصوصاً في الوقت الراهن، الذي باتت فيه الدول الكبرى، تتذرع بمسألة حقوق الإنسان وأوضاع الأقليات وتتدخل في شؤون بعض الدول، لحسابات سياسية بحتة لا تمت من قريب أو بعيد لأي نزعة إنسانية.
إن وضوح الفكرة لدى البعض، لا يعني أن الآخرين ينظرون إليها بنفس الوضوح، فربما نراها من خلال الجوانب المضيئة عندنا، بينما لا يتوافر ذلك عند الآخرين، فلماذا لا نلتمس لغيرنا الأعذار؟ ولماذا لا نرسخ للحكمة الخالدة: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي معارضي خطأ يحتمل الصواب»، لماذا لا يكون خلافنا، رحمة بيننا، وبحثًا عن أفضل الحلول؟ لماذا أضحى الخلاف مفسدًا لكل قضايا الود؟!.
لقد طفت العالم كله بحثًا في كتب التاريخ، شرقًا وغربًا، فلم أجد لمصر مثيلًا في عظمتها وشموخها وتاريخها ومكانتها، ليست عصبية وطنية، لكنها حقيقة قائمة على الواقع والسند والمعلومة.. لقد ذُكرت مصرنا، عشرات المرات، تصريحًا وتلميحًا وتعريضًا في القرآن الكريم، وجميع كتب السماء، واقترن اسمها بالأمان «ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ»، وشَهِدَ بعلو قدرها، نبي الرحمة والإنسانية محمد، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا، فذلك الجند خير أجناد الأرض، فقال له أبوبكر، رضي الله عنه: ولم يارسول الله، قال: لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.
ومما لا شك فيه أن الإنتماء والوفاء قيمة عظيمة في حياة الأفراد والشعوب على حد سواء، إذ لا مناص أمام الإنسان سوى أن ينتمي إلى وطنه ويفي له، لأن هذا الوضع يجعله يشعر بأن لحياته فائدة، ولوجوده قيمة، ويحميه من الضياع والاغتراب، الذي ينبع من وجود صراع بين قيم متضاربة تؤدي إلى تلاشي الذات، وتبدد الهوية الفردية والجماعية، ومن ثم السقوط في الهاوية.
قالوا: على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء، أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء.. وأنشدوا فيها شعرًا: مصر يا أمه.. ياسفينة، مهما كان البحر عاتي، فلاحينك ملاحينك، يزعقوا للريح تواتي.. هي مصرُ يا سادة، مسرى الأنبياء، ووطن الشهداء، أرض الحضارة الضاربة في قلب التاريخ، حافظوا عليها، ولا تنالوا من استقرارها، ضعوها في أعينكم، ولا تجعلوها آخر ما يشغلكم، هذه أمانة في كل الأعناق، يحاسبنا عليها التاريخ، وسيحاسبنا عليها المولى عز وجل.