ياسر حمدي يكتب:القائمة النسبية.. والمخاوف الدستورية
ADVERTISEMENT
أخطر آفتين عانت منهما الإنتخابات التشريعية المصرية منذ زمن طويل هما: «سلاح المال السياسي، والعصبية العائلية»، وهما آفتان تترعرعان بشدة في ظل النظام الإنتخابي الحالي، ومعلوم للعامة أن المال السياسي يقضي على أحلام كوادر شبابية تستهدف الإصلاح السياسي بمجالاته المختلفة والمتعددة، لذلك يأتي الجدل والنقاش الدائر في الأوساط السياسية حاليًا حول النظام الانتخابي الأمثل للانتخابات البرلمانية في مصر، ما بين نظام القوائم والفردي، وما إذا كانت تلك القوائم نسبية أو مغلقة.
الملفت في النقاش الدائر حاليًا منذ ما قبل بدء الحوار الوطني، وبمناسبته باعتباره واحدًا من الأهداف الرئيسية للمعارضة من خلال جلسات الحوار، والذي تصاعد وتزايد مع افتتاح الجلسات النقاشية للحوار بهذا الموضوع وحتى الآن، وتباين وجهات النظر بخصوصه، هو تصدير التخوف من «عدم الدستورية»، فيما يخص النظام الانتخابي بالقائمة النسبية، والتدليل على ذلك بأحكام سابقة للمحكمة الدستورية، لم يكن أي منها في محله، فبعضها يتحدث عن أحكام دستورية صدرت في ظل دستور 1971، وبعضها يتحدث عن أحكام دستورية كانت تخص نقاطًا محددة في النظم الانتخابية التي كان معمولًا بها في حينه، مثل اقتصار نظام القوائم على الأحزاب دون المستقلين، أو غيرها من النقاط، التي لا تتعلق بكون نظام القوائم النسبية في العموم غير دستوري.
المسألة باختصار ووضوح، سياسية قبل أن تكون دستورية أو قانونية، وباب الدستور بنصوصه الحالية مفتوح لأي شكل نظام انتخابي شرط أن يحقق الشروط المطلوبة، والمنصوص عليها دستوريًا، ويأتي دور القانون؛ ليجسد الإرادة السياسية ويُفَصِل كيفية تحقيق تلك الشروط الدستورية مثل، تمثيل النسب المخصصة للنساء والشباب والمسيحيين وغيرهم من الفئات المميزة إيجابيًا بحكم الدستور، وهو كله مما يشهد طرحًا لبدائل عديدة في الوقت الراهن، بعضها جاهز وموجود ومطروح منذ فترات سابقة، وبعضها يمكن تطويره وتنقيحه، لكن الأهم في النهاية هو ما نريده من طبيعة النظام الانتخابي، وما شكل البرلمان الذي تحتاجه مصر.
في مرحلة مثل التي تمر بها مصر حاليًا، وبعد سنوات من الانسداد السياسي، والتضييق على الحياة السياسية وتهميش السياسة ومفهومها بشكل عام، نظرًا للأحداث التي كانت تمر بها مصر من محاربة الإرهاب والتطرف وخلافه، وفي ظل ضعف واضح وبادي للحياة الحزبية بأشكالها كافة سواء المؤيدة للسلطة، أو المعارضة لها، وبعد تجربة برلمانين منذ 2015، وطريقة تشكيلهما التي كان جزءًا منها شكل النظام الانتخابي، والأداء العام لمجلسي 2015، و2020، حتى الآن يبدو واضحًا، أن مصر بحاجة لاستعادة مجال سياسي يشهد تنافسًا جادًا وطرحًا لأفكار ورؤى ومرشحين، لا تهيمن عليه ولا تتدخل فيه مؤسسات وأجهزة الدولة، ولا يسيطر عليه المال السياسي ولا العصبية العائلية، ويفرز قيادات وكوادر جديدة تستطيع تجديد دماء الحياة السياسية في مصر من مختلف التوجهات، ويعيد تنشيط الحياة الحزبية سواء بالأحزاب القائمة أو باندماجات قد تشهدها المرحلة المقبلة، أو بتأسيس تجارب حزبية جديدة.
وبالتالي، فإن تلك الحالة تحتاج لمجالس تشريعية ومحلية منتخبة تشهد تنوعًا واسعًا للطيف السياسي، والحزبي والفكري، وهو ما لا يمكن تحقيقه من خلال نظام القوائم المغلقة التي عادة يفترض أن تعبر عن توجه سياسي، أو فكري أو حزبي واحد، ولا يمكن تصور أن تتكرر تجربة جمع الأحزاب كافة، المؤيدة منها والمعارِضة في قائمة موحدة، إذا كنا نتحدث عن مناخ ومجال سياسي مختلف.
كما لا يمكن تحقق فكرة التنوع والتعدد السياسي والحزبي من خلال النظام الانتخابي الفردي، خاصة في ظل الجمع بينه وبين نظام القوائم، فهو عادة يخضع لحسابات انتخابية محلية أكثر من كونها تعبيرًا عن أفكار سياسية وتوجهات عامة، فضلًا عن الاتساع الكبير للدوائر الفردية في ظل الأنظمة المختلطة بما يمثل عبئًا كبيرًا على كثير من الكفاءات، والكوادر التي لا تستطيع الترشح والتنافس في ظل اتساع الدوائر بهذا الشكل، وبالتالي فإن ما تقدمه القائمة النسبية، هو حل لفكرة التنافس والتعدد من ناحية، وضمان الحد الأدنى من التمثيل المتنوع من ناحية أخرى، فضلًا عن تسييس الانتخابات ذاتها عبر طرح قوائم لديها الحدود الدنيا المشتركة سواء حزبية أو ائتلافية أو حتى مستقلة، بالإضافة إلى قضائها على هاتين الآفتين التي تعاني منها الإنتخابات البرلمانية في مصر منذ عقود.
في التخوفات المتعلقة بطريقة تمثيل نسب الفئات المميزة إيجابيًا، فقد أكد لي عدد كبير من السادة رؤساء الأحزاب التي تتبنى فكرة القائمة النسبية أنه مطروحًا العديد من الحلول، إما بفصلها في قوائم منفصلة تضمن تمثيل تلك النسب بشكل كامل عبر قوائم منفصلة يصلح لها أيضًا كُلً من النظام النسبي والمغلق، وإما بدمجها عبر أرقام محددة في القوائم بما يحقق النسب الدستورية، والقانونية المطلوبة مثلما جرى على سبيل المثال في انتخابات سابقة وقت أن كان مشترطًا تمثيل نسبة محددة للعمال والفلاحين، فكان يجرى جمعهم ضمن القوائم النسبية وتصبح الأولوية لاستكمال عددهم أولًا عند إجراء عمليات الفرز.
المقصود هنا، أنه لا يوجد من بين ما هو مطروح، ما هو دستوري، وما هو غير دستوري، والأجدى من تصدير هذه الفكرة هو النقاش الجاد، والتفصيلي لكيفية الوصول لأفضل نظام انتخابي يضمن حياة سياسية نشطة وحيوية، ويحقق تمثيلًا متوازنًا ومتنوعًا في المجالس المنتخبة فيما هو مقبل.
ومفهوم أن تظل هناك وجهات نظر تنحاز وتدافع عن القوائم المغلقة، سواء كان ذلك بمنطق الدفاع عن مصالح انتخابية، أو باعتبارها الطريقة الأوضح والأسهل؛ لإجراء انتخابات وتحالفات، أو حتى بمنطق ضمان وجود أغلبية ولو بدرجة ما في تشكيل البرلمان، لكن المؤكد أن مثل ذلك النظام في ظل الأوضاع السياسية الراهنة، وحالة الأحزاب القائمة وموات السياسة الذي ظل قائمًا على مدار السنوات الماضية، لن يحقق الحد الأدنى المطلوب من نقلة نوعية على صعيد التنافس السياسي، والانتخابي في بيئة مفتوحة وآمنة ولو نسبيًا.
مع ذلك، ودون إغفال أهمية التفاصيل، فإن مسألة النظام الانتخابي تبدو مجرد نقطة واحدة ضمن عديد من النقاط، فالمسألة ليست مجرد التوافق على حلول وسط، أو عرض وجهات نظر مختلفة بمزايا كل منها وعيوب الآخر، وإنما مسألة الحياة السياسية والانتخابات تمتد لتشمل ما هو أشمل من النظام الانتخابي، بعضها متصل بنفس الملف، مثل قوانين الأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية، وحتى فيما يتعلق بالانتخابات نفسها مثل، قانون تقسيم الدوائر وغيرها.
لكن ما هو أهم وهو متصل أيضًا لكنه يبدو غائبًا كعنوان رئيسي عن موضوعات وقضايا الحوار وهو «الرؤية السياسية» وما هي الأهداف الرئيسية لعملية الإصلاح السياسي التي يجرى الحوار حولها ومجالاتها، فقد جرى تفكيك الملفات والقضايا إلى لجان، وعناوين وجلسات دون رؤية شاملة تجمعها، وبالتالي فقد يتحقق مثلًا قدر من التوافق على نظام انتخابي بالقائمة النسبية، لكن إذا لم تجرى الانتخابات في بيئة تتيح للأحزاب والقوى السياسية حرية التنظيم والحركة والتعبير؛ فإن المسألة تظل نوعًا من التحسين الشكلي دون مضمون.
والحقيقة إذا لم يصاحب ذلك انفتاح إعلامي حقيقي يسمح بتعدد، وتنوع الآراء بشكل واسع ودائم ومتصل، وبما يستلزمه ذلك من تعديلات تشريعية لازمة ووقف أي تدخلات في أداء وسائل الإعلام، ولم يصاحبه تغيرات جذرية فيما يتعلق بحالة الحريات العامة وحقوق الإنسان من بينها، وليس فقط قضية سجناء الرأي وتعديل نصوص الحبس الاحتياطي في القوانين المختلفة، بل والشفافية بوجه عام، وبشكل خاص في جميع القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان.
الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها أن ملف حقوق الإنسان في مصر حظى بإهتمام شخصي من الرئيس السيسي، فقد حدث في هذا الملف الخطير تطورات إيجابية وإنجازات عديدة غير مسبوقة، لعل ابرزها إطلاقه الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، ومتابعته المستمرة بشكل شخصي وتكليفه بتطوير سياسات وتوجهات الدولة في التعامل مع الملفات ذات الصلة لتعزيز إحترام جميع الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مع تعظيم الحريات، فضلًا عن تشكيله لجنة العفو الرئاسي التي يباشر عملها بشخصه.
الأهم في حالة الحوار الإيجابية الحالية التي تؤكد على الإهتمام المستمر من القيادة السياسية بالإصلاح السياسي أن تتوقف تلك الرسائل المتضاربة التي لا يعقل أن تتم وتجري في ظل أجواء حوار وطني، أو غيرها من الممارسات التي قد تشير أن ما جرى حتى الآن هو اختلاف في الدرجة، وليس تغيرًا في السياسة العامة، وهو أمر بالغ الخطورة على كل التصورات حول انفتاح سياسي، أو هوامش مفتوحة ومتاحة للحركة والتنظيم والتعبير.
الخلاصة هنا، أن التقدم خطوة للأمام، بقدر ما يحتاج بيئة وأجواء محيطة تساعد عليه، وبقدر ما يحتاج لعناوين رئيسية تستلزم تعديلات تشريعية، إلا أن الأهم هو أن يكون ذلك كله في إطار رؤية واضحة أشمل، وأوسع تستهدف الإصلاح السياسي بمجالاته المختلفة والمتعددة، وأن تكون الممارسات تجسده وتحققه بالفعل، وهو ما لا يمكن أن يبدأ أو يستمر أو يتم إلا بإرادة سياسية واضحة ومعلنة ومؤكدة، وإن كانت ظهرت رؤيتها من خلال دعوة الرئيس السيسي لهذا الحوار الذي بدء وبدأت معه الإنفراجة السياسة.