عاجل
الأحد 22 ديسمبر 2024 الموافق 21 جمادى الثانية 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

أسامة الأزهري يصف مسالك علاج النفس وكيفية تهذيبها وتطهيرها ومقاومة ميولها وأهوائها

الدكتور أسامة الأزهري
الدكتور أسامة الأزهري - مستشار رئيس الجمهورية للشئون الدينية

قال الدكتور أسامة الأزهري، أحد علماء الأزهر، مستشار رئيس الجمهورية للشئون الدينية: إن القرآن الكريم له حديث طويل عن النفس، وعن عيوبها، وأسباب انحرافها، والآثار الخطيرة الناتجة من تسلطها على بقية القوى المكونة للإنسان، وصور تفاعلها مع العواصف الصاخبة التي تهب عليها من نحو: الأهواء، والميول، والتعلقات، والأعراض، والأغراض، وطوفان الأمور الحسية التي تغرقها في المادية، حتى تصير أخطر المنافذ التي تتسرب منها العلل إلى المملكة الإنسانية.

أنواع النفوس المختلفة

وأضاف مستشار رئيس الجمهورية للشئون الدينية، أن القرآن الكريم له حديث طويل أيضًا عن اختلاف صور تفاعل النفوس مع تلك العواصف (السابق ذكرها) حتى برزت أنواع النفوس المختلفة من النفس الأمارة بالسوء، إلى النفس اللوامة، إلى النفس المطمئنة بدرجاتها المتنوعة.

وللقرآن الكريم أيضًا حديث طويل في المقابل عن مسالك علاج النفس، وكيفية تهذيبها وتطهيرها، ومقاومة ميولها وأهوائها، وحملها على مسالك الرشد، والسادة الأكابر من الأولياء والصالحين لهم مسالك مجربة في علاج النفس؛ فهم الذين تنورت بواطنهم بمعرفة الحق، وأقبلوا على النفس بأنوار الوحي حتى انصهرت عيوبها، وتعودت السير في دروب المعرفة والطهر والقناعة والسكينة، وعرفت شرف التعلق بالملأ الأعلى إلى أن برز ذلك المفهوم القرآني الشريف الذي جعله الله شعارًا نورانيًا ومنهجا علويًا ربانيًا للتعامل مع النفس.

الشعار النوراني والمنهج العلوي الرباني للتعامل مع النفس

وأوضح الدكتور أسامة الأزهري، أن هذا الشعار النوراني والمنهج العلوي الرباني للتعامل مع النفس، يتجسد في: التزكية، يقول الله تبارك وتعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (الشمس: 7-10)، ويقول جل وعلا: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» (الأعلى: 14-15)؛ فالتزكية مفهوم قرآني جليل يشرح كيفية إقبال القرآن الكريم على النفوس بالهداية، ويبين كيفية احتشاد الآيات على صناعة تلك النفس؛ حتى إن صاحب البصيرة يرى وراء كل كلمة في القرآن مقصودًا تربويًا يوجه النفس إلى مراد الله منها.

وقد فصل القرآن بعض إجراءات التزكية، وبعض خطواتها العملية؛ فجعل سبحانه مدار التزكية على أمرين؛ أولهما: معرفة قوية عميقة بالمولى جل شأنه، وذلك حين تمتلئ النفوس باليقين، والارتقاء في شهود عظمة الحق سبحانه، مما تنكشف به للنفوس من آيات جلال المولى سبحانه ما تهون به الدنيا والأهواء والمطامع وتقع به للنفوس رهبة وخشية تعرف بها عظمة مقام الربوبية، وقد عبر القرآن عن كل ذلك بقوله: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ».

الأمر الثاني هو: إغلاق منافذ الهوى، وصيانة النفس من التعرض لتلك العواصف التي تشعل فيها نيران الشره والطمع والتنافس، وكف النفس، ومنعها، ونهيها، وصرفها عن تلك المسالك، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى»؛ فكانت النتيجة: «فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (النَّازعات: 40-41).

كيفية رد النفوس عن الأهواء والمطامع

وأكد مستشار رئيس الجمهورية للشئون الدينية، أن وكلا هذين الأمرين (معرفة قوية عميقة بالمولى جل شأنه، وإغلاق منافذ الهوى) يحتاج إلى تدريب للنفوس، وترويض لها، وتمرين عملي مستمر على كيفية ردها عن الأهواء والمطامع، وصرفها عن صخب الحياة وضجيجها الذي يملأها بالتشوش، ويغرس فيها التهالك على حطام الدنيا، وتفقد به النفس الصفاء الذي تستعين به على التعلق بالغيب، والقيام بواجب إجلال الله وتوقيره، إلى أن تتعود النفس السير في تلك المسالك.

وأشار الأزهري، إلى أن النفس لا تصل إلى ذلك أبدًا بمجرد سماع المواعظ، وكثرة الدروس والخطب، وكثرة الكلام عن عيوب النفوس، وعن شرف التزكية؛ فإن كثيرًا من الناس يحسنون الكلام في ذلك، ويحفظون فيه القصص والأخبار والآيات، ويعرفون تلك المعاني، ولكنهم رغم معرفتهم بذلك لم يعبروا على منهج تربوي عملي طويل وشاق.

موضحًا، أن المنهج التربوي العملي الطويل والشاق الذي يرد النفس عن الأهواء والمطامع ويصرفها عن صخب الحياة وضجيجها، ويصل بها إلى معرفة قوية وعميقة بالمولى جل شأنه، ويغلق عليها منافذ الهوى، يتمثل في:

أولًا: ممارسة فعلية لصور تخلية النفس من التعلق بالأهواء.

ثانيًا: استئصال تلك الشظايا المتناثرة من الولوع بالمطامع المتعلقة بالنفوس.

ثالثًا: قهر النفس حتى تتخلى عن عاداتها الباطنية القبيحة.

رابعًا: المواظبة على مراقبة الأهواء التي تتلاعب بالنفوس فتملأها حقدًا وحسدًا وتنافسًا في الدنيا، وإساءةً إلى الخلق، واعتداءً وتطاولًا عليهم.

خامسًا: شغل النفس بكثرة ذكر الله تعالى ومناجاته، وشدة استحضار عظمته، مما تذوب به أهواء النفوس بالتدريج.

سادسًا: لزوم شيخًا مربيًا بصيرًا خبيرًا بالنفوس، ودهاليزها، وخفاياها، مشبعًا بمنهج النبوة في بناء النفوس وتزكيتها، طويل الممارسة لتربية الخلق على تلك المعاني الشريفة، صبورًا على تقلبات النفوس ووهنها وتراخيها، مستحضرًا لمسالك القرآن في صناعة النفس وتهذيبها.

وكل هذا يلفت أنظارنا إلى مقصد جليل؛ ألا وهو أن التزكية مسلك قرآني مكون من ثلاثة مستويات:

المستوى الأول: صناعة النفس وتربيتها وإنشاؤها على مقاصد القرآن وأهدافه، حتى تتم صياغة النفوس من بدايتها على مراد الله منها، وحتى تعجن النفوس من أول أمرها باليقين، والتعلق بالغيب، وتعظيم شعائر الله، وإيثار مرضاته سبحانه على كل شيء.

وحتى تنشأ تلك النفوس على كثرة ذكر الله تعالى وشكره وتمجيده وتسبيحه، وحتى تستحضر تمامًا أمر الدار الآخرة؛ فتنطبع النفس بذلك على المراد الإلهي، ولا تقع منها بعد ذلك منازعة ولا مراوغة إذا خوطبت بمراد الله منها.

المستوى الثاني: الحفظ والصيانة والرعاية لتلك النفس بعد بنائها من أي شيء يصيبها بالأمراض والعلل؛ فبعد ارتفاع بنائها على النحو السابق لا بد من الانتباه والمحافظة، ودوام المراجعة والمراقبة، حتى لا يتسلل إلى ذلك البناء المنيع المحكم شيء مما يحيط بها من شدة إغراق الخلق وتنافسهم في شئون المعيشة، وحتى تتمالك النفس أمرها، وتقوى مناعتها، فتقدر على محاصرة كل ما هو دخيل وطارئ من الخطرات ووساوس النفوس والظلمات والأكدار الناشئة من مخالطة كثير من الناس، من أهل الانحراف والاعوجاج، وأي بناء مهما بالغ صاحبه في تشييده فإنه يحتاج إلى متابعته، وإصلاح كل ما يختل منه.

المستوى الثالث: التدخل بالمعالجة إن وقع أي خلل، أو إن أصيبت النفس بالفعل بعد كل ذلك بشيء من الأهواء، وحينئذ يكون العلاج سهلًا، ويكون رجوعها قريبًا لا يحتاج إلى مجهود وتعب؛ لأن البناء النفسي محكم الأساس، فيسهل تجديد تلك المواضع اليسيرة التي ربما أصابها الداء.

وأوضح الدكتور أسامة الأزهري، أن الذي يحدث للناس اليوم أنهم يهملون تمامًا مرحلة البناء ومرحلة الحفظ، ولا يتعاملون مع الأجيال الناشئة بذلك، ولا يصنعون الإنسان من بدايته بهذه الطريقة، ثم يظلون بعد ذلك يعاملونه بالعلاج فقط كلما رأوا منه انحرافًا فيعانون فيه معاناة شديدة، لأنه يكون حينئذ عسيرًا جدًا، إذ يقوم المربي بالتكسير والتحطيم لأمور قد تكونت وتجمدت داخل النفس من العادات، والأهواء، والتعلقات، والمطامع، مع شدة اعتياد النفس ذلك، وكل ذلك حتى يتمكن من إعادة البناء من جديد، فتغيب بذلك عن الناس معالم منهج النبوة في إنشاء الإنسان وصناعته من أول أمره.

تابع موقع تحيا مصر علي