ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٦)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي السادس في السيرة النبوية الشريفة، بعنوان «الهجرة وأسبابها وفوائدها»، قد ذكرنا في المقال السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بايع أهل المدينة ما زاد من غيظ قريش الأمر الذي دعاهم إلى تعذيب الصحابه ما ضاقوا به ذرعًا، فأمرهم النبي الكريم بالهجرة إلى المدينة، فلما رأت قريش مهاجرة أصحاب رسول الله ورأوا أنه لو لحق بهم يشتد ساعده وتكون له بالأنصار والمهاجرين قوة، اجتمعوا في دار الندوة واشتوروا فيما يفعلون به؛ فمن قائلٍ نحبسه مكبلًا بالحديد حتى يموت، وقائلٍ ننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فوالله لا نبالي أين ذهب ولا حيث وقع.
فقال أبو جهل بن هشام، إن لي رأيًا فيه ما أراكم وقعتم عليه هو أن نختار من كل قبيلة شابًا جلدًا وسطًا متينًا ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا فيعمدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في قبائل قريش فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم.
فأخبره الله تعالى بما اجتمعوا عليه، وأمره بالهجرة إلى المدينة، فأعلم أبا بكرٍ بذلك، فأعد راحلتين للسفر في الليلة التي تواعد المشركون فيها على قتله.. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا أن يبيت موضعه ويتسجَّى بُرْدَتَه؛ لئلا يرتاب أحد في وجوده ببيته، ويؤدي ما عنده من الودائع إلى أربابها.
ثم خرج ليلًا والقوم يرصدونه بالباب، فجعل يتلو «يس»، إلى أن وصل إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)} [يس: ٩]، فجعل يكررها ووضع على رؤوسهم التراب فلم يشعروا به، وتوجه إلى بيت أبي بكرٍ، فلما أصبح القوم خرج عليهم علي فعلموا أن النبي عليه الصلاة والسلام نجا، وقد تبين لقريش أن فتيانهم إنما باتوا يحرسون علي بن أبي طالب لا محمد صلى الله عليه وسلم، فهاجت عواطفهم وارتبكوا في أمرهم فأرسلوا في طلبه، وأعدوا الجوائز لمن يدل عليه أو يأتي به حيًا أو ميتًا، وقد جهلوا أن النبي خرج مهاجرًا ومعه أبو بكر من خوخة في داره متوجهين إلى غار بجبل ثور فدخلاه.
تفرق القوم هنا وهناك حتى وصل بعضهم إلى الغار الذي فيه طلبتهم، بحيث لو نظر أحدهم تحت رجليه لنظر من فيه، فحزن أبو بكرٍ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تحزن إن الله معنا»، ولقد كادوا يشعرون بهما لولا أن الله أعمى أبصارهم، ولقد زادهم ضلالًا أن رأوا نسج العنكبوت الذي خيم على باب الغار معجزةً للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى خيل للرائي أنه من عهد قديم.
لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغار ثلاثة أيام، ثم جاء عبد الله بن أُرَيْقِط وهو كافر قد استأجراه ليدلهما على الطريق وكان قد هيأ لهما راحلتين، ركب الرسول صلى الله عليه وسلم واحدة وأبو بكرٍ الأخرى وأردف خلفه عامر بن فُهَيْرة مولاه ليخدمهما في الطريق، فبعثت قريش سراقة بن مالك في أثرهما، فنجاهما الله منه، ثم سارا حتى قدِما على قباء ظهر يوم الاثنين بعد أيام خلت من ربيع الأول، لثلاثٍ وخمسين سنة مضت من مولده صلى الله عليه وسلم، وهو يوافق ٢٠ سبتمبر سنة ٦٢٢ م.
مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، وهي موضع بجوار المدينة ليالي أسس في خلالها مسجد قباء الذي وصفه الله تعالى بقوله: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ} [التوبة: ١٨٠]، ثم تحول إلى المدينة والأنصار محتاطون به إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر، وخرج النساء والصبيان يُنْشِدون أمامه - طلع البدر علينا من ثنيات الودع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع - ترحابًا وسعادة وبهجة بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة.
دخل النبي الكريم المدينة وهو في هذا الموكب العظيم، فما مر على دار أحدٍ من الأنصار إلا قال هلمَّ يا رسول الله، واعترض ناقته، فقال: «خلُّوا سبيلها فإنها مأمورة»، فتركوها حتى بركت موضع المسجد، فأقام النبي عليه الصلاة والسلام عند أبي أيوب الأنصاري واسمه خالد بن زيد، حتى بنى مسجده ومساكنه بالموضع الذي اشتراه وغير اسم يثرب إلى «المدينة»، وسمى الأوس والخزرج ب«الأنصار» والمسلمين من أهل مكة ب«المهاجرين»، واتخذ عليًّا أخًا، وآخى بين المهاجرين والأنصار، فبلغ من آخى بينهم خمسة عشر من المهاجرين، ومثلهم من الأنصار.. وبهذه الهجرة كثر سواد الملسمين وقويت شوكتهم وتأيَّد الدين بأمر الله تأيُّدًا عظيمًا، وبها يؤرخ المسلمون وقائعهم.