ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٤)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي الرابع في السيرة النبوية الشريفة، لخاتم الأنباء والمرسلين تحت مسمى «الصبر على الأذى والحرص على تبليغ الرسالة»، فبعد أن جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة وسانده عمه أبو طالب أشتد غيظ قريش وعملت كل حيلةٍ لصد الرسول عن دعوته، لكنهم لم يصيبوا غرضًا ولم ينالوا مأرِباً، فأخذوا في إيذائه وصاروا يَسبُّونه ويتوعدونه عند طوافه بالبيت ويعاقبون من أصغى لقوله أشد العقاب، وينسبونه للكذب على الله بقولهم: إن جابر النصراني بمكة يمليه آيات من القرآن، فنزلت آية {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)} [النحل: ١٠٣].
رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يصيبه من الأذى وما يُصنع بأصحابه، وهو غير قادر على حمايتهم، فأذِن لمن ليست له عشيرة تحميه بالهجرة إلى الحبشة، ففرُّوا إلى الله بدينهم، وتتابعت جموع مجموعها ثلاثة وثمانون رجلًا وسبع عشرة امرأة سوى الصبيان، فأكرمهم النجاشي وأحسن مثواهم، أما من بقي من المؤمنين فقد نالهم من العذاب ما لا يصبر على حمله إلا من خالط الإسلام لحمه ودمه، ثم أسلم حمزة عم النبي، وشج بالقوس رأس أبي جهل؛ لسبه النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم عمر بن الخطاب فارتاعت قريش وأُعِزَّ به الإسلام بعد أن كان أشد الأعداء للرسول.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسين سنة مات عمه أبو طالب وزوجه خديجة، فتتابعت بموتهما المصائب، ونالت قريش منه مالم تكن تطمع به في حياة عمه أبي طالب وصارت تنتقل معه في طريق الأذى من باب إلى باب وتتقلب من فكر إلى فكر، خصوصًا أبا لهب والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط، فإنهم كانوا جيرانه يؤذونه بإلقاء القاذورات عليه وقت صلاته وطعامه.
كان موت خديجة من أكبر الخطوب وأعظم الكروب على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان موت عمه أبي طالب أشد خطبًا وأعظم كربًا حتى سمي هذا العالم ب«عام الحزن»، وكانوا يؤرخون به، ولما حضرت أبا طلب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فقال لهم أوصيكم بمحمد خيرًا؛ فإنه الأمين في قريش، الصدِّيق في العرب، وقال عن النبي الكريم صفات كريمة ووصايا عدة.
قويت شوكة قريش بموت أبي طالب وخديجة، واشتدَّ العداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا لم يجد نصيرًا بمكة ذهب إلى الطائف وبه قبائل ثقيف، لعله يجد من ينصره ويساعده على تبليغ الرسالة، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا وأغرَوْا عليه سفهائهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له في طريقه صفين يرمونه بالحجارة وزيد بن حارثة مولاه يدرأ عنه، فالتجأ إلى حائط من حيطانهم وهو بستان لهم، فعادوا فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالي».
ثم عاد إلى مكة ولم يغير شيئًا من عزيمته فلَقِيه القوم هناك وهم أشد وطأة عما كانوا عليه من قبل، ولما يئِس من أهله ومواطِنيه جعل يعرض نفسه على قبائل العرب في أيام الحج ويدعوهم إلى التوحد، وأهله يتعرضون له ويقفون في سبيله، وكان من الذين يحجون عرب يثرب وهم الأوس والخزرج، فتعرَّض صلى الله عليه وسلم لنفرٍ منهم وكلهم من الخزرج، ودعاهم إلى الإسلام وإلى نصرته، فآمنوا به وصدقوا وقالوا له: إنا تركنا قومًا - الأوس والخزرج - بينهم العداوة والبغضاء، فأن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزُّ منك، ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل.