ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي الثاني في السيرة العطرة المحمدية، لرسول الإنسانية تحت مسمى «بعثة خير البرية»، فحُبب إليه الخلوة، فكان يخلوا بغار حراء، وهو جبل قريب من مكة، يعرف اليوم ب«جبل النور»، و«جبل القرآن»، و«جبل الإسلام»، المهم أنه عليه الصلاة والسلام كان يتعبد فيه الليالي ذوات العدد على دين سيدنا إبراهيم عليه السلام، ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها.
فلما بلغ أربعين سنة إلا أشهرًا قلائل بُدِئ بالرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصُّبح، وبينما هو معتكف في خلوته، وافاه جبريل عليه السلام من لدن الحق سبحانه ليُخرِجَ الناس من الظلمات إلى النور، وكان ذلك يوم الاثنين السابع عشر من رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده، يوافق ٦ أغسطس سنة ٦١٠ م.
أخبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه بكيفية بدء الوحي، قال: «فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج، فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ. قال: فغتَّني به حتى ظننت أنه الموت - ثلاثًا - ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ، ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال: {ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ (2) ٱقۡرَأۡوَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ (3) ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5)}[العلق : ١ - ٥]، قال: فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتبتُ في قلبي كتابًا».
الحديث رواه ابن إسحاق في السيرة ص ١٢٠ ، ١٢١ ، وابن سيد الناس في عيون الأثر ١/ ١٠٤، وهي موقوفة على تابعي هو عبيد بن عمير، وتتعارض مع ما في «الصحيحين» من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الوحي أولاً في منامه؛ بدليل قوله: «وأنا نائم»، و«هببتُ من نومي»، وحديث بدء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يفيد فجأة الوحي وخشيته على نفسه حين رآه، فلو كان في المنام ما فوجئ به صلى الله عليه وسلم ولا خشي على نفسه.
المهم عاد صلى الله عليه وسلم وقص على زوجته خديجة الخبر، وقال: «لقد خشيتُ على نفسي»، فقالت له: كلا، والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحملُ الكَلَّ، وتُكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الدهر، ثم انطلقت به إلى إبن عمها وَرَقَةَ بن نوفل، وكان شيخًا كبيرًا قد عمِي، وله اطلاع على كتب الأقدمين، فقالت: يا ابن عمي اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني أكون حيًا إذ يُخرجك قومك، قال: «أو مُخْرِجيَّ هم؟» قال: نعم، لم يأتي رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ولم يلبث ورقة أن توفي.
فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة، فشق ذلك عليه حتى عاوده بقوله تعالى: { يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ (1) قُمۡ فَأَنذِرۡ (2) } [المدثر : ١ ، ٢ ]، فقام يدعو الناس إلى الإيمان بالله تعالى سرًا، فأجابه جمع قليل سماهم التاريخ الإسلامي ب«السابقين الأولين»، وفي مقدمتهم زوجه خديجة، فابن عمه علي بن أبي طالب، فزيد مولاه، فأبو بكر الصديق وكان محببًا سهلاً، وكانت رجالات قريش تألفه، فاجابه إلى الإسلام عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل بن عبد العُزَّى، وكل هؤلاء من بطون قريش، وأسلم غيرهم من مشاهير العرب كعبدالله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وكان الرسول يجتمع بهم ويرشدهم إلى الدين القويم مستخفياً في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي بمكة، التي لا تزال باقية إلى الآن، وكانت دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام سرًا ثلاث سنوات.
والباعث على كون الدعوة في بدء أمرها سرية أن العرب في مكة كانوا من أشد الناس تمسكًا بالقديم، وكانوا جفاة متخلفين بأخلاقٍ تغلب عليها العزة والأنفة، ومنهم سدنة الكعبة والقوَّام على الأوثان والأصنام المقدسة عند سائر العرب، فكان من الحكمة تِلقاء ذلك أن تكون الدعوة إلى هذا الدين الجديد في بدء أمرها سرية، لئلا يفاجئوا بما يهيجهم وينفرهم منه ويمتعضون عند سماعه جهرة، ويكون ذلك سببًا في عدم الوصول إلى المطلوب بالسرعة التي ذكرها التاريخ.
ومن هنا يتضح لنا حجم المعاناة والصبر على البلاء والابتلاء، وحجم الايذاء، وقوة التحمل، والحكمة في التصرف، وكيفية اتخاذ القرارات تحت ضغط، والمشورة في الرأي، والتعامل مع كافة الأمور بالعقل، لقد كان فيما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من صبر وحكمة وتحمل مشقة وعناء أسوة حسنة لنا في التعامل مع أمور حياتنا، كما نتعلم منه كيفية معالجة المشاكل، والتأني في إتخاذ القرارات، والصبر على مشقة وتعب الابتلاءات، والرضى بالقضاء، والعمل الشاق والجهد والكفاح حتى نحقق ما نصبوا إليه.