ياسر حمدي يكتب: رحل ليخبرنا أن الطيبون لا يدومون طويلًا..
ADVERTISEMENT
الأب هو الشخص الذي يمكنك الإعتماد عليه دائمًا مهما بلغت من العمر، هو الذي تتكئ عليه وقت الضعف، هو السند والمعين والظهر المتين في كل الأوقات، هو السد العالي والمنيع لأبنائه عن كل الأشرار، ونهر الخير لهم مهما كانت ظروفه الإقتصادية، لذا يكون موت الأب هو واحد من أصعب المشاعر والمواقف التي يمكن أن يمر بها أي إنسان مهما كان عمره.
الحقيقة من أشد الذكريات ألماً وغصة هي ذكرى الفراق ورحيل الاحبة، ففي مثل هذا اليوم ومنذ ثماني سنوات رحل عن عالمنا «أبي» الحبيب، الطيب الحنون حسن النية ذو القوة الأمين، فارق الدنيا الفانية بصفاء قلبًا ونفسًا طيبًة طاهرًة مطمئنة، رحل للقاء ربًا راضٍ غير غضبان، ونال شهادًة في سبيله مغادرًا الدنيا ليسعد إن شاء الله بجنان الرحمن، رحل بهدوء ولم يؤذي أحدٍ، رحل والجميع يحبه ويدعو له، رحل وهو على وجهه إبتسامًة تملأه، رحل ليخبرنا أن الطيبون لا يدومون طويلًا.
فقدان شخص عزيز عليك يطفيك، بعده حياتك سوف تكتمل قطعًا، لكن دائمًا ما تحس أن هناك شيئًا ناقصًا «سند، فرحة، طبطبة، صورة، مكالمة تليفون، عتاب، حتى الزعل يصبح ناقصًا».. لقد صبرت في فقد أبي دون جدوى، فبرحيله إنجرح القب جرحاً لن يتداوى أبدًا، وعجز اللسان أن يعبر، وجف القلم أن يكتب شوقي له، والحقيقة أشتاق له بكل ما تعنيه الكلمة من لوعة الفراق، وألم الفقد، أشتاق لرؤياه وسماع صوته والحديث معه، أشتاق لخوفه علينا من بطش المنافقين، وطغي الأهل والعمومة ومكر الأقارب والبشر الأشرار.
أبي برغم كونك رحلت من الدنيا إلّا أنّك لم ترحل من قلبي ولا زلت تسكنه، وما زلت أراك في كل صوبًا وناحية، يا أبتي أقسم لك أنه لو كان باستطاعتي أن أهديك قلبي لنزعته وقدمته لك دون تردد، ولكن لا أملك غير دعائي وكلماتي من أحاسيسي ومشاعري الصادقة لكي أهديها لك وأعبر بها عن مدى شوقي وإشتياقي لك، فأنا أعلم جيداً أنك معي وتراني كما أراك دائمًا في منامي وأحلامي، وأتخيلك دائمًا بجانبي أنا وأخوتي في كل مكان، خصوصًا عندما يطغى علينا أحدٍ من الأقارب والعقارب والأوغاد، حتى وإن كان مسيئًا لنا بالإشارة أو اللسان.
ما زلت أبكي فراقك يا أبي بكاءً جنونياً لا يتصوره أحدًا من أهل الأرض، ولو كتبت عن مدى شوقي لك إلى نهاية الدهر لما أنتهيت، ولم أنتهي، فأي كلمة تعبر عن شوقي لك، فما أصعب الحياة دون وجودك فقد فرقتنا الأيام وجمعتنا الأحلام التي تصبرني على رحيلك، وحينما أتذكر أيامنا سوياً تلك اللحظات التي لطالما شعرت أنّني لا أريد أن أتذكرها خوفًا من وجع قلبي الذي لا أقواه، وخوفًا من أن أعود لوحدتي مجدداً، بكيت مطولاً كلحظة خبر فراقك عنا.
أبي رحلت عني مبكرًا وظلت فجوة نقصانك بداخلي، ظل ذاك الفقد يؤلمني كلما مرت علينا مناسبة سعيدة كانت أم حزينة ولم تكون بيننا، لقد سكنت الحرقة صدري وأعجز عن الحياة، فلا أرتاح حتى أبكي كل ليلة لفراقك، والله أتذكرك في كل وقت، ولحظة، وثانية وأراك في كل مكان، خصوصًا عندما تجمعنا قريتنا لقضاء عطلة الأسبوع أو الإحتفال بعيد أو مناسبة عامة أو خاصة أتخيلك ذهبت للحقل أو الصلاة بالمسجد أو زيارة نجلتك أو نفرًا من الأهل والأحباب وسوف تدخل علينا مبتسمًا كما كنت تفعل.
أبي أحتاج لك في كل الأحيان، لقد ضاقت بي الدنيا من أفعال الكثير من حولي وتركتني وحيدًا أبكي الليالي وقلبي يتقطع شوقاً للقياك، أريد أن أشتكي لك مَن حولي من الأهل وخصوصًا الأخوة عندما يقوى قلوبهم ويوسوس شياطين الإنس من حولهم في أذنهم تجاهي، عندها تتجمع مرارة فراقك مع انشقاق قلبي وحزني الشديد من قسوة قلوبهم، فيضيق صدري وتنهمر دموعي ولا أستطيع التحمل، وسريعًا أتذكر كلامك لي بأني الكبير ولا بد من تحملهم، فأعود مسرعًا وأسامحهم مهما كانت إساءتهم لإنهم ظهري وسندي من بعدك.
كنت تعلم جيدًا مدى حبي الشديد وإرتباطي بكل إخواني، وعندما تزوج ناصر كنت تقول: لماذا لم يتزوج الكبير أولًا، وكنت أرد عليك قائلًا: «طالما هو سعيد فأنا في غاية السعادة»، وغضبت غضبًا شديدًا عندما خطبنا لأخي عيد وقلت لأمي هو عشان ياسر بيحبهم هيتجوزوا كلهم قبله، فقلت لك نفسي أكون مصدر السعادة لهم، وأنا أعدك يا أبي وأنت في دار الحق ونحن في دار الباطل أنني سأكون سندًا لهم وظهرًا يتقووا به و يتكئون عليه أبدًا ما حييت، فقد لا يعلمون مدى حبي الشديد لهم وخوفي البالغ عليهم حتى من أقرب الناس إليهم.
أبي في ذكرى رحيلك الثامن أعلم جيدًا أن رسولنا الكريم صل الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له» وأنا أتمنى أن أكون هذا الولد الصالح الذي يدعوا لك، فوالله منذ أن رحلت للقاء ربك لم ولن ينقطع دعائي لك، فيا من أشتاق إليك رحمة الله عليك بقدر ما هزني وجع الحنين إليك.. اللهم اغفر لأبي وارحمه برحمتك الواسعة وآنس وحشته وادخله الفردوس الاعلى مع النبيين والصديقين وتقبله يا رحمن يا رحيم من الشهداء، اللهم وسع له في قبره مد بصره وأجعل قبره روضة من رياض الجنة، ربي ارحم أبي تحت الأرض ويوم العرض عليك، وأمن لقائي به في جنات النعيم.