عن أحاديث الدعم: في الإعادة إفادة
ADVERTISEMENT
منذ ٦ أشهر تتعالى التصريحات الحكومية عن أرقام الدعم وخطط التحول نحو تخفيضه أو استبداله بدعم نقدي و قد كتبت وقتها أنه يجري التمهيد لأمر ما يخص الدعم و بما ان اللحظة المُنتظرة قد حانت و دخلت التصريحات حيز التنفيذ، فربما حان الوقت لتكرار بعض تلك الأفكار مرة اخرى و التي تحدثت عنها طيلة ١٥ عام…
بداية فإن أرقام الدعم في الموازنات العامة في العقدين الاخيرين، بها العديد من الإشارات التي نستطيع من خلالها قياس مدى تطور دور الدولة في منظومة الدعم على مدار هذه الفترة سواء دعم سلعي أو مواد بترولية، وإلى أي مدى يمثل الآن عبء على الموازنة العامة للدولة مقارنة بفترات سابقة.
و كانت موازنات العقد الأخير تُعرف بموازنة "الأربعة أربع"، بمعنى أن ربعها مخصص لسداد الدين وأقساطه، وربع آخر للأجور، ومثله لتغطية نفقات الدعم باختلاف أنواعه، وأخير مخصص للإنفاق العام ومشروعات الدولة.
لكن بالتدقيق في بند الدعم نفسه كنسبة وكرقم حقيقي في ضوء سعر العملة، يتضح هبوطه باستمرار مقارنة باستخدامات الموازنة، فبينما نمى الدعم من 332 مليار جنيه في لحظة تولي حكومة دكتور مصطفى مدبولي إلى 636 مليار جنيه في موازنة العام الحالي، فإن نسبته من إجمالي استخدامات الموازنة انخفضت من 22.2% إلى 11.5%، أما بحسبتها على أساس دولاري -حيث أن المكون الأكبر من الاستهلاك بالعملة الصعبة- فإن الدعم تراجع من ما قيمته 21 مليار دولار إلى 14 مليار دولار خلال هذه الفترة.
و في ذات الحين، حدث تطور كبير في بند الدين بوصول نسبته إلى 62% من الاستخدامات في الموازنة العامة الحالية وبذلك تحولت موازنة "الأربعة أربع" إلى موازنة الثلت والثلثين، بمعنى أن ثلثي الموازنة تقريبا أصبح مخصص لسداد أقساط الديون وفوائدها والباقي يخصص لباقي الاستخدامات من أجور ودعم وإنفاق.
لذلك قبل أى حديث عن الدعم والجدل بشأن التحول نحو الدعم النقدى، يجب فى البداية تبيان إلى أى مدى يمثل هذا الملف عبئاً على الموازنة وهل هو الملف الذى يستوجب كل هذا الاهتمام والتركيز أم أن هناك أولويات أخرى أجدر منه، مثل زيادة الدين العام وسبل استدامته أو تعاظم الإنفاق العام وانهيار وحدة الموازنة.
و فيما يخص الدعم النقدى كبديل لنظام الدعم العينى المعمول به حالياً، فلا خلاف حول كفاءة الدعم النقدي و كفاءة هذه المنظومة في الوصول للمستحقين حال تطبيقها بشكل سليم. والحديث هنا ليس مجرد رأي شخصي بل هو حديث تعضضه التجارب العالمية..
و لكن الشكل "الصحيح" للتطبيق يجب ان يراعي بحد ادنى امرين و هما الإستهداف و مرعاة التضخم.
فبالنسبة للاستهداف تجدر الاشارة ان التحرك الحالي قي أمر الدعم يحدث في غياب تام لأرقام دخل مُحدثة، فالأرقام توضح أنه في عام 2017 كانت نسبة الفقر 32.5% وفي آخر نسخة من تقرير "بحث الدخل والإنفاق" الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في ديسمبر 2020 انخفضت هذه النسبة إلى 29.7٪، وبعد ذلك لم تصدر أي بيانات لاحقة خلال السنوات الماضية في ظاهرة غير مبررة، اللهم إلا دراسة أجرتها الدكتورة هبة الليثي، أستاذة الإحصاء بجامعة القاهرة ومستشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2023 تشير إلى أنه ربما ارتفعت النسبة إلى 35.7%. فكيف لنا ان نستهدف محدودي الدخل دون معرفة من هم بالأساس؟
فيما يتعلق بربط الانفاق على الدعم النقدي بالتضخم فهناك ضرورة مراعاة متغيرات الاقتصاد الكلى، خاصة فى حالة وجود معدلات تضخم خارج السيطرة ترتب غلاء الأسعار بشكل مستمر للدرجة التى لا تجعل الدعم، سواء كان نقدياً أو عينياً، يفلح معه. و لذا يتعين ربط زيادة الدعم بشكل دوري بما يعادل نسبة مستهدفات التضخم للبنك المركزي كحد أدنى و كذلك مراجعة الانفاق على الدعم في ضوء مؤشرات تضخم العناصر المدعومة تحديدا و اجراء مراجعة ربع سنوية لتبيان الحاجة لزيادة الانفاق على الدعم حال تأثر السلع المدعومة بالتضخم
و لضمان نجاح الانتقال الذي يبدو انه بانت حتمي صوب الدعم المادي، يجب أن يتم بشكل تدريجي مصحوباً بآليات قوية لمراقبة الضغوط التضخمية وتحسين معايير استهداف المستفيدين وتقديم برامج للتثقيف المالي للمستفيدين. كما سيكون من الضروري إشراك جميع الطراف المعنية، بما في ذلك المجتمع المدني والممثلين السياسيين، لبناء توافق وتقليل المقاومة الاجتماعية.
في نهاية المطاف، يمكن أن تساهم برامج الدعم النقدية المُنفذة بشكل جيد ليس فقط في تخفيف الأعباء المالية، بل أيضاً في تعزيز العدالة الاجتماعية،. و لكن لو كان جُل إهتمام الحكومة هو فقط حوكمة الموازنة برقم ثابت للدعم فلن يعدو الأمر كونه محض تخلي للدولة عن مسئولياتها تجاه المواطن.