ياسر حمدي يكتب: العفو عند المقدرة.. أخلاق الأنبياء وشيم الكرام
ADVERTISEMENT
تغافل الكثير من المسلمين، وللأسف اغلبهم من الذين يلقبون بمشايخ في الإسلام عن أن العفو عند المقدرة أصل من أصول الإسلام، لأنه من المفترض أنهم هم القدوه في هذا العصر، وبعدم صفحهم وعفوهم عن من أساء إليهم أعتقد غالبية الناس أن التسامح هو نوع من الضعف والانكسار بظنهم أن عدم تلقين الآخر درسًا قاسيًا كما يفعل القدوة فيهم قد يجعله يتطاول عليهم فيعيد الكرة مرةً أخرى ما أن تسمح له الفرصة.
لكن الحقيقة أن تسامح الآخر معناه أن تقدر ظرفه، أن تلتمس له الأعذار، أن تعي أن الآخر لم يكن أبدًا عدوًا لك، لأن عدوك الحقيقي هو السوء الذي يقر في نفسك، فالتسامح معناه أن تضع حدًا للسوء، على الأقل من ناحيتك، وأن تركز تفكيرك على الأمور التي تعنيك حقًا عوض الانشغال بمراجعة الأحداث وإشعال نار الغضب والفتنة والانتقام بداخلك.
لا شك أن النفوس تضعف عند بسط الانتقام بسبب غليان الغضب بين حنايا الصدور، ومع تصاعد أحاديث المجالس والمقاهي ورسائل الهواتف يتصاعد دخان نار الانتقام والثأر، وفي هذا الوقت يظهر المؤمن الحليم والعاقل الصبور حقّا، فلا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الصبور إلا عند الابتلاء، ولا العفوُّ إلا عند المقدرة، وبهذا يكون التسامح طريقة لمداراة الألم وأسلوبًا لمعالجة الغضب ووضع حد للثأر، والأكثر من ذلك أنه نوع من النضج الفكري الذي به تتغير نظرة الإنسان للحياة، وبهذا ينتقل التفكير من مجابهة الخلق، إلى إرضاء الخالق.
والسؤال هنا ما المقصود بالعفو عند المقدرة؟
العفو هو التجاوز عن الذنب ويكون عندما يتم ترك العقاب عليه مع المقدرة، فإن من الأخلاق العظيمة التي تعز صاحبها هي العفو عند المقدرة، أي العفو عن المسيء في حال القدرة على معاقبته، فإذا كانت المعاقبة هي جوهر العدل بينما العفو يكون قمة الفضل، وإن هذا الخلق الكريم هو الذي حث عليه القرآن الكريم فقال تعالى : {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(الحجر:85).
العفو عند المقدرة في الإسلام من أرقى الأخلاق وأرفعها وتظهر الجمال المصاحب لأخلاق الإيمان وعلو كعب صاحب العفو وقوة إيمانه، فالعفو والتسامح سمتان هامتان من سمات المؤمن القوي ودلالة على نبل أخلاقه، وفيه استجابة لأمر الله عز وجل الذي أمرنا بالصفح والمغفرة في قوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40) يقول جل ثناؤه: فمن عفا عمن أساء إليه إساءته إليه, فغفرها له, ولم يعاقبه بها, وهو على عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله, فأجر عفوه ذلك على الله, والله مثيبه عليه ثوابه.
وللعفو عند المقدرة أهمية كبيرة وأثر عظيم، حيث يقول تعالى: { فاصفح الصفح الجميل} (الحجر :85) فالصفح والعفو والتسامح صفات هامة جدًا لكل أفراد الأسرة المسلمة، وقد كثرت الآيات والأحاديث في مدح هذه الصفة التي ترتبط بقوة المسلم وليس بضعفه كما يعتقد البعض، وتحثنا أيات كتاب الله وسنة نبيه الكريم على هذه الصفة الحميدة، قال تعالى: { وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ } ( آل عمران: 134) .
وقال تعالى: {وَإنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ( التغابن :14) فالعفو عند المقدرة من مبادئ الأخلاق الكريمة التي يدعو إليها الإسلام، بل هي أعظمها شأناً لأن العفو من شيم الرجال الكرام حيث يقول تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199)، ويقول سبحانه: { وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } (البقرة:237) وقال عز وجل : {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصِّلت 35:34).
والعفو عند المقدرة هي شيمة من شيم الأنبياء؛ فهذا نينا محمد صل الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فقد صفح عن قريش عندما مكنه الله منهم فعن عن جرير بن عبد الله، عن النبي صل الله عليه وسلم قال: «الطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والمهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة» (إسناده صحيح يشرط مسلم ) فالطلقاء من قريش: هم الذين خلى عنهم رسولنا الكريم يوم فتح مكة وأطلقهم، فلم يسترقهم، ومفرده طليق وهو الأسير إذا أطلق سبيله.
ولنا في نبي الله يوسف عليه السلام أسوة حسنة كذلك، فقد عفا عن إخوته الذين رموه في البئر وأبعدوه عن أبيه { قَال لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف: 92]، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صل الله عليه وسلم فابتدأته: فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواصل الأعمال. فقال: «يا عقبة صل من قطعك واعط من حرمك واعرض عمن ظلمك» (مسند أحمد).
وأخيرًا: أيها المسلمون إن العفو عند المقدرة فيه العزة والشرف للعافين، والعفو عند المقدرة يتجلى فيه الدفع بالتي هي أحسن، وهو من الأمور الهامة التي تعمل على إزالة العداوة من المعتدي حتى يستحي من نفسه على ما فعله ويصير صديقاً حميماً لمن آذاه، والعفو عند المقدرة يكسب الفرد نعمة أن يعفو الله عنه لأنه قد عفا عن إخوانه المسلمين.