البرلمان الأوروبي.. لليمين المتطرف "دُرْ"!
ADVERTISEMENT
انتهت عمليات التصويت الأحد 9 يونيو لاختيار أعضاء البرلمان الأوروبي، في ختام ماراثون انتخابي سيعيد تشكيل التوازنات السياسية في البرلمان ومؤسسات الاتحاد الأوروبي مع تصدر اليمين المتطرف في دول عديدة مثل فرنسا وهولندا والنمسا وبلجيكا. وهي المرة الأولى التي تفرز الانتخابات أكثرية لتحالف أحزاب اليمين المتطرف لتحل محل تجمع التيارات الوسطية التي قادت البرلمان الأوروبي من قبل، ولتحقق بذلك سابقة في تاريخ السلطة التشريعية للتكتل الأوروبي منذ انطلاق الاستحقاق عام 1979.
وكما كان متوقعا، تقدم "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في فرنسا الذي تتزعمه مارين لوبان بخطى ثابتة نحو الفوز بأكثر من 30% أي ضعف ما حققه حزب الرئيس إيمانويل ماكرون؛ وجاءت في المرتبة الثالثة تشكيلة الاجتماعي-الديمقراطي رافاييل غلوكسمان بنسبة 14 %. كما جاء اليمين المتطرف ثانيا في ألمانيا ممثلا في حزب "البديل من أجل ألمانيا" بنسبة تناهز 16,5% من الأصوات، خلف حزب "الاتحاد المسيحي" المحافظ؛ بينما مُنيَ الاشتراكيون والخضر بخسائر فادحة. وفي النمسا، حصل "حزب الحرية" اليميني المتطرف على27% من الأصوات، ليصبح أكبر قوة سياسية في البلاد. وهكذا، فإن اليمين المتطرف حقق مكاسب في انتخابات البرلمان الأوروبي في العديد من الدول، فيما تحكم أحزاب اليمين المتطرف بالفعل عددًا من البلدان من خلال ائتلافات يُهَيْمِنُ عليها، أو يُشارك في حكوماتها والإدارة المحلية لبلدانها.
وفي المجموع، تم استدعاء أكثر من 360 مليون ناخب إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم لاختيار 720 عضوا في البرلمان الأوروبي، في انتخابات انطلقت بهولندا الخميس الماضي وأكدت صعود "حزب من أجل الحرية" بزعامة اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، بينما تمت الانتخابات في الجزء الأكبر من الأصوات داخل دول الاتحاد الأوروبي اليوم الأحد، مثل فرنسا وألمانيا أكبر قوتين داخل التكتل، إضافة إلى بولندا وإسبانيا، فيما جرت في إيطاليا لليوم الثاني، وأيام الجمعة والسبت في عدد آخر من دول الكتلة.
وفي ضوء تأكد خسارة الليبراليين والخضر لمقاعدهم أصبحت التحالفات ذات الأغلبية في البرلمان الأوروبي في مأزق وهي التي تضم يمين الوسط ويسار الوسط، بسبب خسارة عدة مقاعد لحلفائهم من الليبراليين والخضر.
وقد يضطرها للبحث عن حلفاء جدد من اليمين المتشدد حتى تستطيع قيادة البرلمان في دورته الجديدة لمدة خمس سنوات مقبلة. وسيعطل هذا التوازن الجديد في القوى السياسية داخل البرلمان الجهود الرامية إلى إقرار قوانين تعزز التكامل الأوروبي واستكمال خطوات الاتفاق الأخضر وإدماج المهاجرين وحل مشاكل طالبي اللجوء.
وقد استغلت الأحزاب اليمينية المتطرفة مخاوف الناخبين من زيادة تكلفة المعيشة، ومعاناة المزارعين جراء ضغوط شديدة بسبب سياسات الاتحاد الأوروبي باهظة التكاليف التي تحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كما استغلت مخاوف الناخبين المتزايدة تجاه المهاجرين في السنوات الأخيرة بعد تدهور الأوضاع داخل أفغانستان وسوريا وعدد من الدول الأفريقية وتصاعد التوترات الجيوسياسية، بما في ذلك الحرب بأوكرانيا.
والحقيقة أن صعود اليمين المتشدد جاء نتيجة عمل مركز متواصل لأحزابه منذ 2010 بهدف الوصول اليوم إلى هذه النتيجة التي يراها المراقبون "تاريخية".
كما نجح في استمالة الطبقات العمالية والفقيرة التي كانت تصوت تقليديا لليسار والاشتراكيين والخضر. وسوف ينعكس صعوده في البرلمان بلا شك على العلاقة مع دول الجوار جنوب المتوسط وخاصة العرب والمسلمين بشكل عام، خاصة أن اليمين المتطرف يُجاهر بعدائه لحكومات تلك الدول وللمسلمين، وللشعب الفلسطيني ويدعم علَنًا الكيان الصهيوني، بعد أن كان اليمين المتطرف مُتّهمًا "بالعداء للسّامية" من قبل.
وفي ضوء هذه القضايا وغيرها، تتعلق أنظار العالم بتطورات أوضاع الاتحاد الأوروبي بعد صعود اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان.
ومن المعروف أن أي تطورات داخله ستؤثر على شركائه وجيرانه؛ فالاتحاد الأوروبي يتمتع بقوة بشرية تقدر بأكثر من 400 مليون نسمة وبأهمية جيوإستراتيجية كبيرة لأن أوروبا تتوسّط مختلف القارات فأصبحت محطة تجارية هامة ومُلتقى طرق حيوية. ليس ذلك فحسب بل لكونها شهدت أيضا تطور الرأسمالية التي تحكم العالم منذ القرن الثامن عشر، واكتسبت من هنا أهمية تاريخية في العلاقات السياسية الدولية والإقليمية.
ومن هنا فإن التكتل الأوروبي يعد نموذجًا للتطور الرأسمالي النيوليبرالي الذي يفتح الحدود لتيسير تَنَقّل البشر ضمن أكثر من مليار رحلة سنويًا بين دول "منطقة شنجن" التي نشأت لتشجيع التبادل الاقتصادي والتجاري والمنافسة بين الدول الأعضاء وشركاتها. ويتضح ذلك أكثر عند فحص أصول فكرة إنشاء الاتحاد الأوروبي التي تعود إلى الجماعة الاقتصادية للفحم والصلب واتفاقية روما سنة 1957 أو "السوق المشتركة" (فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولكسمبورغ)، إلى أن نشأ الاتحاد الأوروبي سنة 1993. وكان تطوير السوق الرأسمالية والإنتاج الصناعي لصالح الشركات الكبرى في مقدمة أهداف مؤسسي الاتحاد الأوروبي لخلق كيان قادر على المنافسة في السوق العالمية. كما إن توسيع الاتحاد الأوروبي يهدف توسيع السوق المشتركة لتتمكن الشركات من بيع منتجاتها. وخدعوك فقالوا إن الاتحاد الأوروبي يهدف إلى "أخوة الشعوب"، لأن الحقيقة أن الهدف الجوهري تعزيز النظام الرأسمالي ومكاسبه التي تئن من تبعاتها الطبقات العاملة وصغار الفلاحين والموظفين والفئات الكادحة. هؤلاء تحولوا اليوم وخلال الاقتراع إلى التصويت لصالح اليمين المتطرف بعد أن صدقوا وعوده لهم بتحسين ظروفهم المعيشية والحد من معاناتهم.
والأسئلة الملحة الآن بعد انعطاف البرلمان الجديد نحو التطرف الشديد: إلى أين يتجه الاتحاد الأوروبي وسياساته خلال السنوات الخمس المقبلة وكيف سيؤثر البرلمان متطرف النزعة على قضايا جوهرية مثل التكيف المناخي والهجرة وتوسيع الاتحاد بضم أعضاء جدد مثل أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا؛ ثم كيف ستكون العلاقة مع الشريك الأمريكي والشركاء العرب والأفارقة؟