وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
ADVERTISEMENT
تمر علينا في هذه الأيام المباركة ذكرى ميلاد خير الأنام، وحبيب الرحمن، المصطفى العدنان، محمد النبي الأمين، خاتم المرسلين، فإن القلم ليحفى دون وصف ما أوتيه صل الله عليه وسلم من مكنون الصفات وجليل الهبات، فقل فيه ما شئت من مدح، وانعته بما ترى من وصف حميد، فهو جامع لكل محمدة وشامل لكل فضيلة اتصف بها مخلوق في هذا الكون، فهو ذو السماحة العالية، والرجاحة السامية، والخلق الطاهر، والكمال الوافر، والإحسان الكامل والعفو الشامل.
فقد قال عنه ربه سبحانه وتعالى في سورة الشرح: «وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ».. وهذا تأكيد صريح من رب الناس أجمعين على علو قدر الهادي الأمين، فقد أعلى قدره وجعل له الثناء الحسن العالي، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق، فلا يُذكر الله إلا ذكر معه رسوله صل الله عليه وسلم، كما في الدخول في الإسلام، وفي الأذان، والإقامة، والخطب، وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد بن عبد الله، وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره، بعد الله تعالى.
ولهذا فإن لنبينا الهادي، محمد صل الله عليه وسلم، عند ربه، مقام عظيم، لا يحيط بعلمه إلا واهبه، تجلى شأنه.. لكنه، تعالى، قد أبان للورى إشارات ودلائل على رفعة ذلك المقام، حيث امتن على نبيه، فأكرمه بجزيل عطائه في الدنيا والآخرة، ليتراءى للعالمين، جليل قدره، وشرف منزلته، وعلو ذكره عليه الصلاة والسلام، وهذا ما أكده المولى سبحانه وتعالى في كتابه العزيز.
وعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن رسول الله صل الله عليه وسلم، أنه قال: «أتانِي جِبْرِيلُ فَقالَ: إنَ رَبِي وَرَبكَ يَقُولُ: كَيْفَ رَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ؟ فقال النبي: الله أعْلَمُ. فقال، عز وجل: إذَا ذُكِرْتُ ذُكرتَ مَعِي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله». أما السعدي، فيفسر الآية بقوله: أعلينا قدرك، وجعلنا لك الثناء الحسن العالي، الذي لم يبلغه مخلوق سواك، إذ جمعنا اسمك بلفظ الجلالة في كلمة التوحيد، فلا يذكر الله إلا وذكرت معه، كما عند اعتناق الإسلام، وفي الأذان، والإقامة، اللذين يطوفان الأرض، ويدوران مع الأفلاك بغير انقطاع، مدويين في زهاء خمسة ملايين مسجد، بمشارق الأرض ومغاربها.
ويشير القرطبي، إلى رفع ذكر النبي محمد صل الله عليه وسلم في خطبة الجمعة، ويومي الفطر والأضحى، وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند رمي الجمار، وعند الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، ولو أن رجلًا عبد الله، جل ثناؤه، وصدق بالجنة والنار وكل شىء، ولم يشهد أن محمدًا رسول الله، لم ينتفع من ذلك بشىء.
أما قتادة، فيفسر رفع الله ذكر نبيه الخاتم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة، بأن ليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة، إلا ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فبعد التشهد، الذي هو أحد أركان الصلاة، ولا تتم إلا به، يشرع المصلي في تلاوة الصلاة الإبراهيمية بما تتضمنه من ذكره صل الله عليه وسلم.
ولقد اختص الإله محمدًا بالنبوة، والرسالة، والكلام، والإسراء، والمعراج، حتى صعد مكانًا لم يبلغه نبي قبله، ولا أحد بعده، كما فضله مولاه على الرسل والأنبياء كلهم، عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ورفع الله ذكره في الآخرة، بما يناله من كرائم الدرجات، كالوسيلة، والفضيلة، والدرجة العالية الرفيعة، والمقام المحمود، ثم الشفاعة العظمى يوم القيامة.
يتفق ابن كثير وآخرون على رفع الله ذكر حبيبه محمد صل الله عليه وسلم في الأولين والآخرين، فقد نوه به، حين أخذ الميثاق على جميع النبيين والمرسلين، أن يؤمنوا به، وأن يأمروا أممهم بذلك، فذكره في الكتب المنزلة على الأنبياء من قبله، وأمرهم بالتبشير به، ولا دين إلا ويظهر دينه عليه، ومن مظاهر تكريم الخالق، تجلت قدرته، لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام، أن رفع ذكره،حتى قبل أن يخلقه.
وقال الرازي: «أعلم أنه عام في كل ما ذكروه من النبوة، وشهرته في الأرض والسماوات، وذكره الله في الكتب السماوية المتقدمة، وانتشر ذكره في الآفاق، وأنه ختمت به النبوة»، ولقد تواترت بذكره الكتب السابقة، حتى قال تعالى، على لسان المسيح عليه السلام، في الآية السادسة من سورة الصف: «وَمُبَشِرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».
وقد أخذ الله تعالى الميثاق على النبيين بالإقرار بنبوته صل الله عليه وسلم قبل ولادته وبعثته، فقال المولى، جل وعلا، في الآية الواحدة والثمانين من سورة آل عمران: «وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَبِيِيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَ بِهِ وَلَتَنصُرُنَهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِنَ الشَاهِدِينَ»، وقال تعالى في الآية الخامسة والستين من سورة النساء: «فَلَا وَرَبِكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَى يُحَكِمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِمُوا تَسْلِيما»، وفي الآية الحادية والعشرين من سورة الأحزاب: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَهَ كَثِيرا».
روى معاذ بن جبل، رضي الله عنه، عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال لَهُ، حينَ بعثَهُ إلى اليمنِ: «إنَكَ ستأتي أهلَ كتابٍ يسألونُكَ عن مفتاحِ الجنةِ، فقُلْ: هو شهادةُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ، وأن محمدًا رسول الله، ولكنْ مفتاحٌ بلا أسنانٍ، فإنْ جِئْتَ بمفتاحٍ له أسنانٌ فُتِحَ لَكَ، وإلا لمْ يُفْتَحْ لَكَ، وإن أسنان مفتاح الجنة هي عبادات الإسلام وأركانه وشرائعه، فلا ينفعُ توحيدٌ بغير عمل».
وقال أنس بن مالك، رضي الله عنه، إن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: «لما فرغت مما أمرني به ربي من أمر السموات والأرض قلت: يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرمته؛ جعلت إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جَعَلْت لي؟، قال: أوليس قد أعطيتك ظاهرًا أفضل من ذلك كله؟ إني لا أُذكر إلا ذُكرت معي، وجعلت صدور أُمتك أناجيل، يقرأون القرآن ظاهرًا ولم أعطها أمة، واعطيتك كنزًا من كنوز عرشي، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
جعل الله لنبينا المعصوم صل الله عليه وسلم في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم، ما ليس لأحد غيره، بعد الله تعالى، فصار رفيع الشأن، سامي المنزلة، عظيم القدر، حيث فضله الله على سائر الخلق، وجميع الرسل والأنبياء، وربط محبة الإله بمحبته، وجعل طاعته من طاعة ربه، فقال تعالى في الآية الثانية والستين من سورة التوبة: «وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُ أَن يُرْضُوه»، وفي الآية الثالثة عشرة من سورة النساء: «وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ»، وفي الآية الرابعة والخمسين من سورة النور: «قُلْ أَطِيعُوا اللَهَ وَأَطِيعُوا الرَسُولَ».
وفي الآية الحادية والثلاثين من سورة آل عمران، قال تعالى: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم»، كأنه تعالى يقول: أملأ العالم من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك، ويحفظون سنتك، فما من صلاة مفروضة، إلا ومعها سنة، فهم يمتثلون لأمري في أداء الفريضة، ويتأسون بك عبر إحياء السنة، وجعلت طاعتك طاعتي، وبيعتك بيعتي، فقد جاء في الآية الثمانين من سورة النساء: «مَنْ يُطِعِ الرَسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ».. وفي الآية العاشرة من سورة الفتح: «إِنَ الَذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَمَا يُبَايِعُونَ اللَهَ».
وبينما يخاطب الله رسله وأنبياءه، قاطبة، بأسمائهم، ويختص محمدًا بنداء الرسول والنبي، وقد أورد، ابن عاشور، في سفره المعنون «التحرير والتنوير»، أن قوله تعالى في الآية التاسعة عشر من سورة التكوير: «إِنَهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَ أَمِينٍ»، إنما جاء في وصف نبينا العدنان محمد حبيب الرحمن صل الله عليه وسلم.
وفي إشارة إلى كماله، ورفع ذكره، وعلو درجته، وسمو منزلته عند الله والخلق أجمعين، يقول، عز وجل، في الآية السادسة والخمسين من سورة الأحزاب: «إِنَ اللَهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُونَ عَلَى النَبِيي يَا أَيُهَا الَذِينَ آمَنُوا صَلُوا عَلَيْهِ وَسَلِمُوا تَسْلِيما».. فالله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُونَ عليه، حيث يثني ربنا عليه بين الملائكة، وفي الملأ الأعلى، وكذلك يفعل الملائكة المقربون، وقد أمرنا، الحق تبارك وتعالى، بالصلاة على نبيه، تكريمًا لشأنه صل الله عليه وسلم، وعرفانًا بفضله علينا، ورجاء لشفاعته، واقتداء بخالقنا، جل في علاه، وبملائكته، وتقربًا إليه سبحانه، التماسًا لعفوه وغفرانه، وابتغاء لمرضاته، وطمعًا في واسع فضله.
وفي ذكرى ميلاده عليه الصلاة والسلام، علينا جميعًا أن نحتفل به بالشكل الذي يليق بعلو مكانته وعظيم شأنه عند ربه، فعلينا أن نقتدي بسنته، ونثني عليه كما أثنى الله عليه وأمرنا وملائكة بذلك، ونصلي ونسلم عليه في كل وقت وحين، وأن نتحلى بأخلاقه الشريفة ونتشبه بصفاته الحميدة، ونهتدي بهديه صل الله عليه وسلم.. فهذه مكانة حبيبنا وعلو قدره عند رب العالمين، فقد رفع ذكره في مكانة لم تكن لأحد من البشر غيره، فما هي مكانته صل الله عليه وسلم ومقدرته وعلو شئنه عندك؟!.