الثقافة الإنسانية.. وانهيار المسلمات
ADVERTISEMENT
دائما ما نقف على مفهوم المسلمات والسلوكيات الفطرية التي تتمتع بها الثقافة البشرية فهل هناك فعليا سلوك او مفهوم ثقافي فطري ينزع نزوع السلوك المادي الجيني في الصفات الوراثية التي تحكم الملامح البدنية للإنسان وأحيانا الملامح السلوكية في بعض الحالات؟ أم أن تلك المفاهيم الثقافية هي مجرد مفاهيم وليدة قابلة أن تموت وأن تحيا مكانها مفاهيم مختلفة؟ هل يمكن أن نعتبر أن هناك مفهوم يولد سلوك انساني مطلق؟ بمعنى حين يعيش الانسان بمعزل عن اي ثقافة ومفاهيم تربوية خارجية يولد هذا المفهوم تلقائيا دون الحاجة الى مؤثرات خارجية تزرعه في عقل وذهن الانسان؟
حين ننظر لإشكالية الرق والعبودية واختلاف خيريتها عبر الأزمنة المتباينة والمجتمعات المختلفة نجد أن قديما كان الرق يعتبر سلوك انساني مقبول مجتمعيا، ولا يجد فيه حتى الفلاسفة ورجال الدين أي شذوذ إنساني أو عيب أخلاقي، بل كان يتم التنظير له بصفته صفة مجتمعية نمطية وفطرية يمكن أن يتمتع بها الانسان والمجتمع. في العصر الحديث ومع التطور الانساني وصعود مفهوم المساواة المطلقة بين البشر دون النظر الى أي اعتبارات دينية أو سياسية أو عرقية تكون داخل الضمير الجمعي للإنسانية رؤية جديدة مفادها أن هذا المفهوم ضد مبدأ المساواة وتغيرت النظرة الثقافية له. ورغم ذلك بقيت هناك مجتمعات بعيدة عن هذا الأثر فظل الرق موجودا فيها وأحيانا تم تحوره الى صور أخرى من الاستعباد والرق غير المباشر، هذا التغير يشير إلى أن هناك تغير حتمي يحدث في المفاهيم ومفردات الثقافة المجتمعية لكل مجتمع ولكل البشرية.
أنظر لهذا الأمر من باب الشك والحيرة في مدى إمكانية ألا يكون هناك ثوابت أخلاقية للبشرية. الثوابت والمبادئ الأخلاقية ما هي الا نتاج التفاعل ما بين الطبيعة والبيئة المجتمعية واحتياج الانسان الى تنظيم العلاقات بينه وبين الموجودات الأخرى. فتم تراكم مفاهيمي لتلك المبادئ العامة توائم مع الاحتياجات والخبرة المعرفية البدائية التي تمتع بها الانسان حين بدأ يعي مفهوم الاخلاق وتنظيم العلاقات بين افراد المجتمع. كل ذلك تطور مع خروج القرى للنور وكون الانسان مجتمع في بيئة مكانية محددة وثابتة بعد ظهور الزراعة وتطورت معها العلاقات المجتمعية البشرية وخلقت حاجة الانسان الى بناء علاقات قانونية تحكم العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد وبين القرى وبعضها، وبدأت تظهر أولى قواعد التجارة من خلال تبادل السلع بناء على توافرها واحتياجاتها.
ورغم ذلك كان من المقبول أخلاقيا أن تشن قرية حربا على قرية أخرى للحصول على السلع المتوفرة لديها، حماية القرى لنفسها لا تخضع الى قانون بل خضعت إلى مبدأ القوة والخوف من قوة الطرف الاخر وخسارة الحرب. حتى ظهرت الدولة المركزية في تطور الحضارة المصرية القديمة فكل المفاهيم المرتبطة بالدولة المركزية والضرائب والخضوع لسلطة الملك أو الحاكم هي وليدة هذا النظام المجتمعي الذي عكس احتياج الانسان الى التنظيم أقوى وأكثر فوقية. فماذا لو افترضنا هنا عدم ظهور مفهوم الدولة فهل كانت ستظهر تلك المفاهيم الاخلاقية والقوانين الحاكمة؟ والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا هل ظهور الدولة كان حتميا أم هو نتيجة فكرة عابرة جاءت في ذهن أحد القدماء خدمه موقعه كصاحب سلطة أو قريب من أصحاب السلطة وتطورت تلك الفكرة حتى صارت مفهوما انسانيا شاملا؟
هل يمكن أن تتغير المفاهيم السائدة حاليا في القادم من الأزمنة؟ وخاصا اأن التغيير يحدث تراكمي وبطيء وإن كان تطور وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات تلعب دورا كبيرا في تسارع هذا التغير والتحول عما كان يحدث سابقا لكن هذا التغير ان كان قديما يحتاج الى عدة أجيال للتحول فقد يحتاج حاليا إلى جيلين فقط نتيجة هذا التسارع. فهل سيأتي اليوم الذي ينظر البشر الى المثلية على سبيل المثال نظرة طبيعية؟! ويختفي حتى الشعور بالنفور ويتلاشى مفهوم أن الفطرة رجل وامرأة ليتحول الأمر إلى أن الفطرة هي رجل وامرأة وآخرون؟
تعيش البشرية حاليا حالة من السيولة الثقافية كما أقر زيجموند باومان - عالم الاجتماع والفيلسوف البولندي الذي رحل عن عالمنا منذ سنوات قليلة - في نظريته عن السيولة التي أصابت عصر ما بعد الحداثة.. وادخلتنا في حالة من الغموض والضبابية أفقدتنا القدرة على التنبؤ بطبيعة وحجم التحولات التي تتعرض لها المفاهيم الثقافية والمنظومة القيمية والإنسانية للبشرية.