حين كنا صغارا
ADVERTISEMENT
حين كنا صغارا، كانت أحلامنا بسيطة، ووعينا يرى حدود العالم عند حدود مدينتنا، نراقب القطارات المسرعة ونحن ندفع غبارها عن أعيننا، ونتساءل من أين أتت وإلى أين تذهب؟! الجيران كانوا أهلنا، نعيش معهم فرحة اللقاء في المساء حول الحكايات والضحكات الطيبة التي يطمئن بها الآباء علينا بعد يوم عمل طويل.
يبقى حضن الأم مفتوحا طوال اليوم ليمنحنا الدفء والمحبة والأمان، نتركها وتبقى رائحة حضنها الدافىء تحيط قلوبنا، ولا تغادر ذاكرتنا لحظة. وكان هناك جيراننا نشاركهم ويشاركونا أفراحنا وأحزاننا يدا بيد، والسعادة الصافية تملأ قلوب الجميع، نرى وجوه الجيران متباينة الملامح لكنها متوحدة المحبة والابتسامات، وتظل ملامح تلك الوجوه عالقة في ذكرياتنا مهما باعدنا الزمن عنهم. ثم كان الأصدقاء نشاركهم ممارسة الألعاب الشعبية البسيطة والجميلة التي تعتمد على تجمعنا معا، نضحك ونختلف ونتشاجر لكن ايادينا متماسكة في كل لحظة وكأننا نسير معا في الحياة. كانت فرديتنا ذائبة في كيان المجموع بدءا من العائلة إلى الجيران والأصدقاء.
كبرنا واتسعت حدود رؤييتنا للحياة والعالم من حولنا، وبدأنا نرفع ضبابية البراءة الطفولية التي غشيت عيوننا صغارا، وأدركنا تلك الحدود التي تفصل ما بين الخير والشر، وصارت العلاقات الإنسانية ذات مفاهيم أكثر اتساعا من تلك النظرة الطفولية. رأينا العالم كما هو بملامحه الطيبة والمرتبكة والغاضبة والشريرة. تعلمنا أن العالم خليط من البشر يختلفون في العرق والجنس والدين. عرفنا أن الإختلاف هو السنة الحتمية للوجود الإنساني. وظلت براءة طفولتنا تغرز فينا قيمة المحبة كمظلة تجمعنا وتشبك كل تلك الاختلافات في نسيج واحد، وتحت سماء أكبر تظلل الجميع وهي أننا كلنا نشترك في الإنسانية. وبقينا نحمل في قلوبنا روح الجماعة والمحبة التي نشأنا عليها.
اختلفت مفردات الحياة وتغيرت معطياتها. والأطفال حاليا صارت حدود عالمهم أكثر اتساعا من حدودنا التي عشناها صغارا. صار كل العالم هو محيطهم ومواقع التواصل الاجتماعي هي نافذتهم الواسعة المطلة عليه بكل اختلافاته، وأصبح الطفل أكثر التصاقا بالشاشات الزرقاء. حتى الكبار غرقوا في هذا العالم الافتراضي، واختلفت مصادر السعادة، وصار حجم التفاعلات مع التغريدات والتعليقات هو مصدر السعادة للأطفال قبل الكبار، وسادت الألعاب الالكترونية واختفت تقريبا من شوارعنا الألعاب الشعبية الحركية والجماعية، ووهنت معها تلك الأواصر الانسانية التي تعتمد في بناءها على العلاقة المادية والإنسانية المباشرة التي يعيشها الطفل مع أهله وجيرانه وأصدقائه.
خُلقت حالة اجتماعية افتراضية وهمية في حقيقة أمرها هى اغراق في فردية مقلقة تغلف المشاعر بغلاف من الافتراضية الباردة التي تفتقد لدفء رائحة الأم وتشابك الأيادي مع اصدقائنا في العابنا وغابت عن ذكرياتنا رائحة غبار القطارات.
صرنا ننغمس في فردية مفرطة حتى في علاقاتنا الانسانية مع الأهل. هل سنتجه إلى أن يصبح العالم هو أنا ماديا والآخر افتراضيا؟ هل سنصل إلى أن ينشأ أطفالنا على الوعي الافتراضي ويموت فيهم الوعي بدفء الواقع؟
تساؤلات تحتاج أن نضع شاشاتنا الزرقاء جانبا ونعيد تقييم الانغماس في فرديتنا أمام عالم افتراضي يتوغل حتميا في تفاصيل حياتنا لا يمكننا الهروب منه. لكن يمكننا أن نتعايش معه دون أن نفقد هويتنا الإنسانية في عالم الواقع.