ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٣٠)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي الثلاثون في السيرة النبوية لرسول الإنسانية المصطفى صلى الله عليه وسلم بعنوان «وإنك لعلى خلق عظيم»، فقد صح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ووصف الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة القلم في الآية (٤) فقال سبحانه: «وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ»، وكفى بربه شاهداً.. وقد بادرته السيدة خديجة، صلى الله عليه وسلم، حين جاءها فزعاً من أول الوحي، بأن عددت مناقبه الحسنة وخلقه الجميل، فقالت: «أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».
فانظر إلى خُلِقه قبل الرسالة، وتفكر في ما روي عَنِ ابن عباس قال: «لمًا بلغ أبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ قَالَ لأخيه ارْكَبْ إلى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أنَّهُ يأتيه الْخَبَرُ مِن السَّمَاءِ، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الآخَر،ُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أبي ذَرّ،ٍ فَقَال: رَأيْتُهُ يَأمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَق»، فكان أول ما شد الغريب الذي يتقصى نبأ النبي الجديد أنه يدعو إلى مكارم الأخلاق، ويقول كلامًا ليس من الشعر.
ثم انظر إلى ما قالته أم المؤمنين عائشة، عندما سُئلت، رضي الله عنها، عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: «كان خُلُقُه القرآن»، ووصفته صفية بنت حيي رضي الله عنها فقالت: «ما رأيت أحسن خُلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وقال عنه خادمه أنس رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا»، وعنه قال: «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال أفٍ قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا»، وتقول عائشة رضي الله تعالى عنها: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً له، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله».
وعلى الرغم من حسن خلقه، صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان يدعو الله بأن يحسّن أخلاقه، ويتعوذ من سوء الأخلاق، وتسمعه عائشة رضي الله عنها يقول: «اللهم كما أحسنت خَلْقِي فأْحسِن خُلقي».. ويخبرنا أبو هريرة، رضي الله عنه أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يدعو فيقول: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الأَخْلاَقِ»، وهو الذي تجمعت فيه محامد الأخلاق ولكنه كثير الدعاء في كل صلاة: «وَاهْدِنِي لأحسن الأَخْلاَقِ، لاَ يَهْدِي لأحسنها إلا أنت، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلا أنت».
وسأله النواس بن سمعان رضي الله عنه عن البر والإثم، فقال صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق، والإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس».. والإسلام في الأصل هو رسالة قيم وأخلاق، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: «تقوى الله وحسن الخلق»، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: «الفم والفرج».
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»، و «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسْنِ الخلق»، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبِّكم إليَّ، وأقربَكُم مني مَجْلِساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً».
وقد تمثلت فيه، صلى الله عليه وسلم، مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، ومن نظر في أخلاقه وشيمه علم أنها خير أخلاق، فكان أعلم الخلق وأعظمهم أمانةً وأصدقهم حديثًا، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالاً، وأعظمهم عفوًا ومغفرةً، وكان لا يزيد شدة الجهل عليه إلا حلمًا.. وكان صلى الله عليه وسلم لا يتكلم فيما لا يَعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كرِه الشيء عُرِفَ في وجهه.
وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول لصحابته ولنا من بعدهم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم»، وكان خير الناس، وخيرهم لأهله، وخيرهم لأمته من طيب كلامه وحُسن معاشرة زوجاته بالإكرام والاحترام، وكان من كريم أخلاقه في تعامله مع أهله وزوجه أنه كان يُحسن إليهم ويرأف بهم ويتلطّف ويتودّد إليهم، وكان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم.
لم يستثن أحدًا من حسن خلقه معه حتى مع الأطفال، فكان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم، وإذا سمع بكاء الصبي يسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه، وكان يحب التيسير على أمته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم».
وسع الناس بخلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا فحاش، ولا عياب ولا مداح، وكان لا يذم أحدًا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا في ما يرجو ثوابه، وجمع له الحلم صلى الله عليه وسلم في الصبر، فكان لا يغضبه شيء يستفزه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم باشّاً لطيف المعشر متسامحًا رحيمًا، وكان طلق الوجه دائمًا، رآه أعرابي، فاسترعاه بشاشته وطلق محياه، فقال له: أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب؟ والله ما هذا الوجه وجه كذاب! وأسلم إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين، فكان أبعد الناس عن الكبر، وكان يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله»، كيف لا وهو الذي كان يقول: «آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد»، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر، ومن مكارم أخلاقه في المصافحة والمحادثة والمجالسة، أنه كان إذا استقبله الرجل فصافحه، لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه من وجهه حتى يكون الرجل هو يصرفه.