مدرسة الصائمين
ADVERTISEMENT
لعلنا منذ الوهلة الأولى حينما نطالع هذا العنوان ينطبع في ذهننا الصورة المعهودة عن المدرسة التي يتعلم فيها التلاميذ ويكتسبون الأدب ويتحلون بحلل أهل العلم، وليست هذه الصورة ببعيدة عن ما نعنيه أو نقصده حينما نتحدث عن مدرسة الصائمين، تلك التي نتعلم فيها الدروس الإيمانية والمعاني الإنسانية ونتأدب فيها بآداب الإسلام وأخلاق القرآن، وهذه الدروس والآداب تَتَمَثل في الآتي:
1- تقوى الله: فالتَّقْوى هي الغاية العُظْمى من وَرَاء الصِّيام؛ لذلك قال الحق - سبحانه -: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 183).
وتَظْهَر التَّقْوى في الخَشْية منَ الله، ومُرَاقبته في كلِّ الأعمال، والالْتِزام بِأَوَامِره ونَوَاهِيه، وقد عَرَّفَها الإمام عليٌّ كرم الله وجهه، في قوله: «التقوى هى: الخوف منَ الجليل، والعمل بما في التنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد لِيَوم الرَّحيل». والصَّوم بلا شك يُوَرِّث الخشية، ويُنَمِّي مَلَكة المُرَاقبة، ويُوقِظ الضَّمير، ويدفع صاحِبَه إلى الامتثال لأوامِر الله ونَوَاهِيه.
2- قوة الإرادة والصَّبر والتَّحَمُّل: فالصَّوم فيه مَشَقَّة منَ الجوع والعَطَش، وفيه مُقَاوَمة للشَّهوات والمَلَذَّات، وصَبْر عليها، وهذه الأمور تُقَوِّي الإرادة، وترفع مِن قُوَّة التَّحَمُّل والصَّبر.
3- الانضباط الذَّاتي: حيث إنَّ الصَّائم هو الرقيب على نفسه، فلا أحد يعلم بِكَوْنه صائمًا، أو غير صائم إلاَّ الله، ومِن هنا يصل المسلم إلى مرحلة الانضباط الذاتي، والرقابة الداخليَّة، في كل عَمَل يقوم به، ولا يحتاج إلى رقابة خارجيَّة، مِن سُلْطة، أو قانُون.
4- جِهاد النَّفس والشيطان: فالنَّفس عَدُوَّة لِصَاحِبها، وكذلك الشيطان، وهما يعتمدان في إِغْرائهما للإنسان على الشَّهوات، والصَّوم فيه امتناعٌ عن هذه الشَّهَوات، وكأنَّ المسلم حين يصوم، فإنَّه يسد أبواب النَّفس والشيطان إلى قلبه، وهنا يَتَحَقَّق معنى الجهاد.
5- الصوم جُنَّة: الوِقاية منَ المنكرات والشُّرور، فالصَّوم الحقيقي فيه إمساكٌ عَنْ جميع المعاصِي والسَّيئات، حيث تصوم جميع الجَوَارِح، وتنضبط؛ لذلكَ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري، وأبو داود: «الصِّيام جُنَّة؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، ولا يجهل، وإنِ امرؤٌ قاتَلَه، أوْ شَاتَمَه، فَلْيَقُل: إنِّي صائم»، وبِهذا يكون الصيام درسًا عَمَليًّا في أَخْذ النَّفس بِالفَضَائل، وحَمْلها على الاتِّصاف بِكُلِّ ما هو حسن وجميل، وبذلك تزكو وتطهر، ويصبح الإنسان مأمول الخير، مأمون الشَّر.
6- إضعاف سلطان العادة: فَفِي بعض الأحيان، يَتَعَوَّد المسلم على عادة سيئةٍ، مثل: عادة التدخين، ويُمَارِسها بِشَكْل مُتَوَاصل، فيأتِي الصِّيام ويَحُول بينه وبين هذه العادة بالتدريج، ويضعف سلطانها على نفسه، ويُسَاعده على التَّخَلُّص منها، وهنا نقول: إنَّ رمضان فرصةٌ ذهبيَّة للمُدَخِّنين؛ كي يُقْلِعوا عن هذه العادة الضارَّة بالنَّفس والمال.
7- الإحساس بالفُقَراء: إحساس الأغنياء بآلام الفقراء، فالصِّيام يُفَجِّر ينابيع الرحمة والعطف في قُلُوب الأغنياء، ويدفعهم إلى مُوَاساة الذين ضاقَتْ بِهِم سُبُل العيش، بعد أن أَحَسوا بِأَلَم الجوع، ولهذا كان يوسف - عليه السلام - يُكْثِر منَ الصِّيام، فقيل له: لماذا تَجُوع، وأنت على خزائن الأرض؟ قال: أخاف أن أشبعَ، فأنسى الجائع".
وَحَوْل هذا المعنى يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: «الصَّوم حِرْمانٌ مشروع، وتَأديب بالجُوع، وخُشُوع لله وخُضُوع، لكلِّ فريضةٍ حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذابُ، وباطِنه الرَّحمة، يُعَوِّد الإنسانَ الصَّبْرَ، ويُعَلِّمه خِلال البِر، فإذا جاع مَن أَلِف الشَّبع، عَرَف الحرمان كيف يقع، والجوع كيف أَلَمُه إذا لَذَع».
8- الصَّوم وصِحَّة الجسد: فالصَّوم فيه صحَّةٌ للجسد، وقد أثبت الطِّبُّ الحديث فوائده المتعددة، حيث إن المَعِدة بيت الداء، «وما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنِه»، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فالإِكثار منَ الطَّعام له مضارٌّ ظاهريَّة، وأمراض كثيرة، والصَّوم يُؤَدِّي إلى صحَّة الجسد.