ياسر حمدي يكتب: هل تريد أمريكا فعلًا قيام دولة فلسطينية!؟
ADVERTISEMENT
هل تريد الولايات المتحدة الأمريكية فعلًا قيام دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، أم أن العودة إلى تبني شعار الدولة فرضته ظروف مؤقتة وطارئة بسبب قساوة المعركة التي اندلعت منذ «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023 والرد الإسرائيلي المدمر، الذي أسفر عن «إبادة بشرية» نتيجة مصرع وإصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتدمير المستشفيات ومحطات الكهرباء والجزء الأكبر من منازلهم في المدن والمخيمات التي يضمها القطاع!؟.
كان «الفيتو» الأمريكي في مجلس الأمن في 18 إبريل 2024 الماضي ضد مشروع القرار الذي قدمته الجزائر والذي يوصي الجمعية العامة بقبول دولة فلسطين عضوًا في الأمم المتحدة اختبارًا لجدية التصريحات التي أدلى بها الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن طوال الأشهر التي تلت احتدام المعارك، والتي عرضت كأساس لتسوية مستقبلية على الدول العربية المعنية والفاعلة، وعلى الفلسطينيين أنفسهم، وقد جاء هذا «الفيتو» ليُفشل موافقة 12 دولة عضوًا في مجلس الأمن على القرار، بينها خصوصًا فرنسا، العضو الدائم، والتي صوتت لمصلحته، فيما لوحظ امتناع بريطانيا، التي تبَنّت أخيرًا حل الدولتين، عن التصويت.
بررت الولايات المتحدة رفضها القرار بالقول على لسان نائب سفيرها، روبرت وود، إن «(الفيتو) لا يعكس معارضة للدولة الفلسطينية، لكنه اعتراف بأنه لا يمكن أن تنشأ دولة فلسطينية إلا عبر مفاوضات مباشرة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني».
لا يختلف هذا التبرير عن المنطق الأمريكي، الذي كان سائدًا طوال أكثر من عقدين، فالولايات المتحدة التي رعت اتفاقات أوسلو الموقعة بهدف الوصول أخيرًا إلى سلطة وطنية مستقلة تخلت عن التزاماتها، ووقفت إلى جانب إسرائيل في سعيها إلى إفراغ مشروع السلطة من مضمونه، وصولًا إلى رفض فكرة الدولة المستقلة من الأساس، وهو الأمر الذي تكرره حكومة نتنياهو وفصائلها المتطرفة، ويلتقي موضوعيًّا مع مشروع «حماس» ورعاتها الإيرانيين.
التزمت الإدارات الأمريكية دائمًا مبدأ عدم الموافقة على شىء ترفضه إسرائيل، وأخرجت موقفها إلى العلن بصيغ قديمة - جديدة، فبعد التصويت في مجلس الأمن اعتبر بلينكن أن عضوية فلسطين في الأمم المتحدة يجب أن تتم بموافقة دولة الإحتلال الصهيوني، وأوضح: «نحن مستمرون في دعم الدولة الفلسطينية بضمان أمن إسرائيل».
كانت الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تعترف بإسرائيل كدولة مستقلة في 14 من مايو 1948، وهناك مَن يجادل اليوم في قانونية ذلك الاعتراف بدولة لم تحدد حدودها حتى الآن، متخطية قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين إلى دولتين بين اليهود والعرب.
في الرفض الأمريكي الأخير لقرار رمزي في معناه، ولكن يستجيب لدروس 75 سنة من الصراع، استمرار لتبني الموقف الإسرائيلي الرافض لقيام دولة فلسطينية بأي صورة من الصور، ولن تفيد التبريرات في التخفيف من المغزى.
طوال سنوات ما بعد أوسلو، كرست حكومات الإحتلال الإسرائيلي المتعاقبة نهج حفر الأسس لمنع قيام مثل هذه الدولة عبر سياسة قضم الأراضي وتهجير سكانها وتوسيع المستوطنات والإتيان بعشرات آلاف المستوطنين إلى المناطق المفترض أن تشكل الدولة الفلسطينية الموعودة.
في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، جعلت الولايات المتحدة من القدس عاصمة لإسرائيل، واعترفت بضمها الجولان المحتلة، ولم تتخذ الإدارات المتعاقبة أي تدابير ذات معنى لمنع الاستيطان والضم والإلحاق، إلى حد يجعل «التفاوض» اللاحق الذي تقترحه واشنطن بين الفلسطينيين وإسرائيل، وتكرر الكلام في شأنه في كل مناسبة، غير ذي جدوى، بل تبين أن بدائل مثل معركة غزة الدموية ستفرض نفسها وحيدة على جدول الأعمال.
رحبت دولة الإحتلال الإسرائيلي بقوة بـ«الفيتو» الأمريكي، واعتبر السفير الإسرائيلي جلعاد أردان أن بايدن وقف «إلى جانب الحقيقة والأخلاق في مواجهة النفاق»، وليس في الترحيب الإسرائيلي ما يفاجئ، ففي الأساس ترفض إسرائيل، وعلى رغم الحرب المفتوحة في القطاع، والصدام اليومي في الضفة، الاعتراف بأي صورة من صور الحكم الفلسطيني، وفي هذا الوقت بالذات يرى بنيامين نتنياهو أن «إتفاقية أوسلو كانت خطأً فادحًا يجب ألا يتكرر»، فكيف بدولة كاملة الأوصاف!؟.
كانت «الدولة الفلسطينية» غائبة عن الأجندة الأمريكية عشية معركة غزة، لكنها لم تغِبْ يومًا عن الخطاب الرسمي العربي.. يختصر مايكل سينغ، مدير «معهد واشنطن»، تلك الأجندة بسعي إدارة بايدن إلى البناء «على (اتفاقات أبراهام)، التي أبرمتها إدارة ترامب لتسهيل التطبيع مع إسرائيل وتعزيز شبكة واشنطن من الشركاء الإقليميين، وسط تصاعد المنافسة بين القوى العظمى على الصعيد العالمي».
لم يكن العامل الفلسطيني ولا «الدولة الفلسطينية» مطروحين في الرؤية الأمريكية، بل إن مصر والسعودية هما الدولتان اللتان اشترطا إدخال مستقبل الوضع الفلسطيني على جدول المفاوضات مع أمريكا انطلاقًا من التمسك بقرارات الشرعية الدولية ومبادئ المبادرة العربية التي اقترحتها السعودية وتبنتها القمة العربية في بيروت قبل 22 عامًا.
وبطبيعة الحال، ازداد الطرح العربي أهمية وإلحاحًا بعد التطورات المأساوية الأخيرة، وبات موضوع قيام دولة فلسطينية مستقلة، ليس فقط شرطًا لسلام عادل ودائم في المنطقة، وإنما أيضًا لاستعادة التوازن العام في الإقليم ووضع حد لسياستين تغذيان بعضهما بعضًا: واحدة إسرائيلية عقيدتها الإحتلال والاستيطان والتوسع الدائم، وأخرى إيرانية تجعل من مجابهة إسرائيل مطية لتوطيد نفوذها في بلدان المشرق العربي وصولًا إلى اليمن والبحر الأحمر.
بديهي، في هذا الوقت بالذات، القول إن السير في تسوية حقيقية للمشكلة الفلسطينية لن يبدأ من دون تغيير جدي في السياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل إلى أقصى الحدود، وذلك بالانتقال من موقف التبني الكامل لسياسة حكومة الإحتلال الإسرائيلي إلى انتهاج سياسة الراعي والشريك القادر على فرض رأيه، انطلاقًا من حرصه على مصالحه الإقليمية والدولية الأشمل.
لقد أتضح لإسرائيل والعالم أجمع أنه من دون الدعم الأمريكي، كانت دولة الإحتلال العبرية ستواجه صعوبات ضخمة في التصدي لحرب غزة، ثم في إحباط الهجوم الإيراني الصاروخي الكثيف في منتصف إبريل، ومن المريب القول بعد اليوم إن الولايات المتحدة مجرد صاحبة أفكار حول السلام أو إنها وسيط ينتظر تجاوب الفرقاء.
لم يعد كافيًا القول إن أمر الدولة الفلسطينية متروك للتفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فهذا إذا كان يصح قبل السابع من أكتوبر تهربًا من مواجهة وقائع الشرق الأوسط المرة، فإنه لا يستقيم بعد تحول الولايات المتحدة شريكًا أكبر لإسرائيل في «معركتها الوجودية»، التي أدت حتى الآن إلى مجزرة بشرية مفتوحة وجروح لا يمكن شفاؤها في الوسط الفلسطيني، وإلى انقلاب لم يشهد العالم له مثيلًا في توجهات الرأي العام، تعبر عنه الاحتجاجات المتصاعدة في الجامعات الأمريكية الأبرز.
كان التصويت الأمريكي الأخير في مجلس الأمن لمصلحة دولة الإحتلال الإسرائيلي جزءًا من تقاليد البيت الأبيض السابقة، وقد آن الأوان لتحويل شعارات بايدن وبلينكن عن الدولتين إلى سياسة ملموسة.. والطريق إلى ذلك هو في تولي واشنطن قرار تغيير النهج الإسرائيلي مثلما تولت قرار حماية دولة الإحتلال العبرية وجعلها قوة إقليمية عظمى.