مفتي الجمهورية يوضح المراد من «روح القدس» الوارد في آيات القرآن
ADVERTISEMENT
أوضح فضيلة الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، المراد من لفظ "روح القدس" الوارد في آيات القرآن الكريم، وهل المقصود به سيدنا جبريل عليه السلام أم ماذا؟ وما سبب تسميته بذلك؟
روح القدس في القرآن
وقال فضيلة مفتي الجمهورية: إن لفظ "روح القدس" ورد في القرآن الكريم في أربعة مواضع؛ ثلاثة منها جاءت بمعنى أن الله تعالى قد أيَّدَ به سيدنا عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهي:
قوله تعالى: «وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ» (البقرة: 87)، وقوله تعالى: «تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٍ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ» (البقرة: 253)، وقوله تعالى: «إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ» (المائدة: 110).
وفي موضع أن الله تعالى قد ثبَّت به النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين معه، فقال تعالى: «قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ» (النحل: 102).
المراد بـ روح القدس عند المفسرين
وأوضح فضيلة المفتي، أن المفسرون قد أفاضوا في بيان المراد بـ "الروح القدس"، واختلفوا في ذلك على أقوالٍ، ومنها:
القول الأول: أن المراد به؛ مَلَك الوحي سيدنا جبريل عليه السلام، حيث أيَّدَ الله به سيدنا عيسى عليه السلام، وثبَّت الله به فؤاد سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وممَّن قال ذلك: قتادة والسدي والضحاك والربيع وآخرون في تفسير قوله: «وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ».
وعن ابن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرًا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح، قال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو الذي يأتيني؟» قالوا: نعم.
قال العلامة الزَّجَّاجُ في (معاني القرآن وإعرابه): (وقوله عزَّ وجلَّ: «بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ»: روح القدس جبريل عليه السلام) اهـ.
وقال الإمام الماتُرِيدِي في (تأويلات أهل السنة): [وقال أهل التأويل: الروح: هو جبريل عليه السلام، والقدس هو اللَّه سبحانه وتعالى؛ كقوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ» أي: جبريل عليه السلام] اهـ.
روح القدس في الإنجيل والقرآن
وأشار فضيلة الدكتور شوقي علام، إلى أن القول الثاني: أن المراد بـ "روح القدس" الذي أيَّدَ الله تعالى به سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام: الإنجيل، والذي نزله الله تعالى على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: القرآن، وقد نص على ذلك كثير من العلماء:
قال الإمام الطبري في (جامع البيان): [قال آخرون: الروح الذي أيَّدَ الله به عيسى: هو الإنجيل. ذكر مَن قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: «وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ»، قال: أيَّدَ الله عيسى بالإنجيل روحًا، كما جعل القرآن روحًا، كلاهما روح الله، كما قال الله: «وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَا»] اهـ.
وقال العلامة الكرماني في (غرائب التفسير وعجائب التأويل): [وقيل: روح القدس: الإنجيل؛ وسُمي روحًا كما سمي القرآن روحًا في قوله تعالى: «وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحًا مِّنۡ أَمۡرِنَا»] اهـ.
وقال الإمام الرازي في (مفاتيح الغيب) في ذكر ثاني المعاني: [المراد بروح القدس: الإنجيل، كما قال في القرآن: «رُوحًا مِّنۡ أَمۡرِنَا»، وسمي به لأن الدين يحيا به ومصالح الدنيا تنتظم لأجله] اهـ.
المراد بالروح القدس اسم الله الأعظم
وتابع مفتي الجمهورية، أن القول الثالث: أن المراد بالروح القدس في حقِّ سيدنا محمد وعيسى بن مريم عليهما صلوات الله تعالى وسلامه: اسم الله الأعظم، أو الدعاء المبارك الذي كان يحيي به سيدنا عيسى الموتى ويستجيب الله تعالى به لسيدنا محمد صلى الله عليهما وسلم، وممن قال بذلك عبد الله بن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهم.
قال الإمام ابن أبي حاتم في (تفسيره): [عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ»، قَالَ: «هُوَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ عِيسَى يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى» وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ] اهـ.
وقال الإمام الماتُرِيدِي في (تأويلات أهل السُّنَّة): [وقيل: إن روح القدس هو الدعاء المبارك الذي به كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص بدعائه] اهـ.
وقال العلامة الكَرْمَانِي في (غرائب التفسير وعجائب التأويل): [وقيل: (روح القدس): اسم الله الأعظم، الذي كان به يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص وغيرها] اهـ.
وذكر الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (3/ 596) في بيان ثالث المعاني: [أنه الاسم الذي كان يحيي به عليه السلام الموتى، عن ابن عباس وسعيد بن جبير] اهـ.
القول الراجح في تفسير الروح القدس
وأكد فضيلة الدكتور شوقي علام، أن الحاصل أن إطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز؛ ذلك لأن الروح في الحقيقة هي الريح المتردد في مخارق الإنسان ومنافذه، ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك إلا أنه سمي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه من حيث إن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل؛ فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها، والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض.
وقد نص العلماء على أن القول الراجح في تفسير الروح القدس هو القول الأول، وأن المقصود به سيدنا جبريل عليه السلام، وذلك لعدة أمور:
أوَّلها: أن الله تعالى قد أخبر في محكم تنزيله وفي آية واحدة بتأييد سيدنا عيسى عليه السلام بروح القدس وتعليمه الإنجيل، فلو كان المقصود به الإنجيل للزم من ذلك تكرار قول لا معنى له، وهو محال في حقِّ كلام الله تعالى.
وثانيها: أن المشابهة بين مسمى الروح وبين جبريل أتم؛ لكون جبريل عليه السلام مخلوقًا من هواء نوراني لطيف كما هو الحال في الروح.
وثالثها: أن إسناد التأييد والإعانة إلى جبريل عليه السلام حقيقة، وإلى الإنجيل أو اسم الله الأعظم مجاز، وحمل اللفظ على الحقيقة أولى مَن حمله على المجاز.
ورابعها: أن اختصاص جبريل عليه السلام بالتأييد لسيدنا عيسى أظهر من غيره؛ حيث إنه هو الذي نفخ الروح في والدته السيدة مريم عليها السلام فحملت به، وهو الذي بشرها بولادته، وهو الذي صعد به إلى السماء.
وخامسها: أن تفسير "الروح القدس" بأنه جبريل عليه السلام يؤول إلى تأييد أوسع وأشمل من تفسيره بالإنجيل الذي هو تأييد جزئي، وتكثير المعنى المراد أفضل من تقليله.
سبب تسمية سيدنا جبريل بالروح القدس
وأشار فضيلة مفتي الجمهورية، إلى أن من أسباب تسمية سيدنا جبريل بالروح القدس؛ أنه خُلِق بتكوين الله له روحًا من عنده من غير ولادة والد؛ كما سُمي سيدنا عيسى ابن مريم روحًا للسبب ذاته، وفي ذلك تشريف وتكريم له من الله تعالى، وبيانًا لعلو مرتبته، وأيضًا لأنه مما يحيى الله تعالى به الدين، كما يحيي الجسد بالروح.
وبناء على ما سبق؛ فإن تفسير لفظ "روح القدس" في ألفاظ القرآن الكريم: المقصود به على أرجح الأقوال سيدنا جبريل عليه السلام، وقد سُمِّي بذلك تشريفًا وبيانًا لعلو منزلته، ولكونه قد خلق بتكوين الله له روحًا من عنده من غير والدٍ ولده، ولأن الله تعالى يُحيي به الدِّين كما يُحيي بالروح الأجساد والأبدان.