ياسر حمدي يكتب:السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (١٥)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي الخامس عشر في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تحت عنوان «تضحيات الصحابة يوم أحد»، فقد تعرضنا في المقال السابق لبعض مواقف المسلمين في غزوة أحد، وفي هذا المقال سوف نوضح بعض تضحيات الصحابة رضوان الله عليهم في هذه الغزوة الشهيرة بأحداثها الكثيرة والمثيرة، ولعل أبرز أحداثها إشاعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان من أبرز صور تضحيات الصحابة يوم أحد «تضحية أنس بن النضر»، وأنس بن النضر سمع في غزوة أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، وأنه قتل، فمر على قوم من المسلمين قد ألقوا السلاح من أيديهم، فقال لهم: «ما بالكم قد ألقيتم السلاح؟» فقالوا: «قتل رسول الله»، فقال أنس: «فما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله».
واندفع أنس بن النضر في صفوف القتال، فلقي سعد بن معاذ، فقال أنس: «يا سعد والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد»، وانطلق في صفوف القتال فقاتل حتى قتل، وما عرفته إلا أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، وقد كان أنس لم يشارك غزوة بدر فعزم النية لله على أنه في الغزوة القادمة سوف يفعل ما لا يفعله أحد وصدقت نيته إذا كانت غزوة أحد بعد بدر بسنة واحدة.
وتضحية «سعد بن الربيع»، وكما ذكرنا في المقال السابق أن سعد بن الربيع الأنصاري سأل عنه النبي زيداً بن ثابت قائلاً: «يا زيد! ابحث عن سعد بن الربيع بين القتلى في أحد فإن أدركته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟» أي: كيف حالك؟. وانطلق زيد بن ثابت ليبحث عن سعد بن الربيع الأنصاري فوجده في آخر رمق من الحياة، فقال له: «يا سعد! رسول الله يقرئك السلام، ويقول لك: كيف تجدك؟» فقال سعد بن الربيع لـزيد بن ثابت: «وعلى رسول الله وعليك السلام، وقل له: إني والله لأجد ريح الجنة»، ثم التفت سعد وهو يحتضر إلى زيد بن ثابت، وقال: «يا زيد بلغ قومي من الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله مكروه وفيكم عين تطرف».
وتضحية «عمرو بن الجموح»، حيث ذُكر أن عمرو بن الجموح رجل أعرج لا جهاد عليه، فقد أسقط الله عنه الجهاد، لكنه سمع نداء: يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد، وأراد أن ينطلق للجهاد في المعركة فقال أبناؤه الأربعة: «يا أبانا لقد أسقط الله عنك الجهاد، ونحن نكفيك».. فبكى عمرو بن الجموح وانطلق إلى النبي ليشتكي قائلاً: «يا رسول الله! إن أبنائي يمنعوني من الخروج للجهاد في سبيل الله، ووالله إني لأريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة»، فقال النبي: «يا عمرو فقد أسقط الله عنك الجهاد، فقد عذرك الله جل وعلا»… ومع ذلك رأى النبي رغبة عارمة في قلب عمرو بن الجموح لخوض المعركة، فالتفت النبي إلى أبنائه الأربعة قائلاً لهم: «لا تمنعوه! لعل الله أن يرزقه الشهادة في سبيله».. وانطلق عمرو بن الجموح يبحث عن الشهادة في سبيل الله، وقتل في المعركة، ومر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قتل فقال: «والله لكأني أنظر إليك تمشي برجلك في الجنة وهي صحيحة».
وكانت «تضحية أم عمارة» من أعظم التضحيات، حيث لم يشترك من نساء المسلمين في تلك المعركة إلا امرأة واحدة هي أم عمارة نسيبة بنت كعب النجارية الخزرجية، فلما رأت النبي عليه الصلاة والسلام في أرض المعركة قد تكالب عليه أعداؤه من يمنة ويسرة رمت القراب التي كانت تسقي بها جرحى المسلمين، وأخذت تدافع عنه.. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم عنها: «ما رأيت مثل ما رأيت من أم عمارة في ذلك اليوم، ألتفتُ يمنة وأم عمارة تذود عني، والتفت يسرة وأم عمارة تذود عني»، وقال لها النبي في أرض المعركة: «من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة ؟! سليني يا أم عمارة» قالت: «أسألك رفقتك في الجنة يا رسول الله» قال: «أنتم رفقائي في الجنة».
وكان لتضحيات «شباب الأنصار» دور عظيم في المعركة فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم هجوم الكفار قال لنفر ممن حوله من شباب الأنصار: «من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة»، فتسابقوا حتى قتلوا جميعاً واحداً تلو الآخر وهم ستة من الرجال.
ومن أروع التضحيات «مقتل مخيريق»، فقال ابن إسحاق: «وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الفطيون من اليهود، قال: لما كان يوم أحد، قال: يا معشر اليهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا : إن اليوم يوم السبت، قال : لا سبت لكم.. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء، ثم غدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقاتل معه حتى قتل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا – مخيريق خير اليهود».