يوميات طبيب أثناء حرب أكتوبر.. كواليس وأسرار في المعركة المجيدة.. حوار
ADVERTISEMENT
يواصل الدكتور ادوارد يوسف جبرائيل سرد أحداث تلك الحرب المجيدة، تلك القصص التي توضح لنا كيف حمل أبطالنا من القوات المسلحة والمدنين مسئوليتهم فى دحر أعداء الوطن الخبثاء والجبناء ليتم تطهير تلك الأرض المقدسة من عدوانهم ويرصد تحيا مصر التفاصيل.
كيف أستعدت مستشفى السويس العام قبل حرب أكتوبر ٧٣ ؟
لقد كان التحضير للمعركة يعتبر مستشفى السويس العام هي أساس الخدمة الطبية للجيش الثالث الميداني و التي تستقبل الجرحى و المصابين من السرايا الطبية و الكتائب الطبية و المستشفيات الميدانية للقوات المسلحة و كانت الخطة الاستراتيجية للتموين الطبي ان تزود المستشفى بمخازن داخل المستشفى و خارج المستشفى موزعة في أماكن سرية داخل المدينة لا يعرفها إلا المدير العام الدكتور محمد أيوب و مدير الصيدلة المساعد الدكتور يوسف تاوضروس. بحيث لا يحدث نقص في اي مستلزمات طبية او أدوية تحتاجها المستشفى في حالة اندلاع العمليات الحربية. و كان الدكتور يوسف تاوضروس صعيدي يتكلم اللهجة الصعيدية الجميلة و كان يمر علينا في الاستقبال و يشجعنا و يقول لنا َما تخافوش يا ولاد، انا عندي جلوكوز( بتعطيش الجيم) لو دلجناه في القنال يحليها و كنا نضحك من تشبيهاته ان لديه مخزون لا ينضب من كل ما تحتاجه المستشفى. و كان نظام العمل في المستشفى ان يتم دخول الجرحى و المصابين الي الاستقبال حيت تجري لهم الاسعافات الأولية و الإنعاش ثم يتم تشخيص إصاباته و من يحتاج أشعة يرسل الي قسم الأشعة و من يحتاج عملية جراحية يحول الي العمليات و كانت خطة وزارة الصحة ان يلحق بالمستشفى بالإضافة إلى قوتها الأساسية فرق طبية منتدبة من الجامعات المختلفة و وزارة الصحة و التأمين الصحي في تخصصات الجراحة العامة و العظام و المسالك البولية و الأنف و الأذن و العيون. و كان يأتوا إلينا مشاهير الأطباء مثل الاستاذ الدكتور عمر عسكر و نبيل المهيري و فاروق برج و غيرهم. عن نفسي كنت أعمل في الاستقبال تحت قيادة المرحوم الدكتور ناجي وديع أخصائي الجراحة الذي علمني كيف افحص المصاب و كيف اعمل له تصنيف و كيف اقوم بانعاشه من الصدمة حيث أن هؤلاء الجرحى أتوا من مسافات بعيدة من ميدان المعركة داخل سيناء مرورا بالمعابر ثم الطريق إلى السويس.
من خلال مشاهداتك لبعض الجرحى والمصابين من ابطال القوات المسلحة المصرية ياريت تحكيلنا عن أشهر الاصابات التى دخلت المستشفى فى هذا الوقت ؟
سأروى ثلاث مواقف اتذكر كامل تفاصيلها :
الموقف الاول أحد جنود المعابر. أتوا به و هو غير قادر على تحريك نصفه الاسفل و الذي كان مثل لوح الثلج و واضح أن الحالة ضربة صقيع و قصة هذا الجندي انه كان عمله في إقامة المعابر كي تعبر الدبابات و المدرعات و المدافع الي الضفة الشرقية للقناة و حدث كسر في احد المسامير التي تربط جزء من المعبر مع جزء آخر فظل ممسكا بالجزئين معا و جسمه يغطس في مياه القناة عدة ساعات في الليل و مياه القناة باردة جدا الي ان تم تبديل المسمار المكسور و عندما رفعوه من الماء كان غير قادر على تحريك نصفه الاسفل بسبب انكماش الدورة الدموية بسبب انخفاض درجة الحرارة.
الموقف الثانى جندى آخر من جنود فتح الثغرات في الساتر الترابي جاءوا به و وجه كله ينزف و ملامحه غير واضحة نتيجة ارتداد ذرات الرمال، نتيجة شدة اندفاع المياه، الي وجهه فاحدثت فيه هذه الاصابة و هو ثابت يؤدي مهمته بتصميم و عزيمة لا تلين كي تستطيع الدبابات و المدرعات و المدافع ان تمر من المعابر الي داخل سيناء.
الموقف الثالث أحد المقاتلين من الذين هاجموا إحدى النقاط الحصينة في خط بارليف و كان صف ضابط عندما أتوا به كان في حالة صدمة دموية نتيجة وجود نزيف و كان بتأثير الصدمة في حالة لا وعي و كان يتحدث بصوت عالي و كأنه في أرض المعركة و كان يحكي كيف صدر إليهم الأمر و كيف استعدوا و كيف عبروا في القوارب المطاطية و تسلقوا الساتر، كل ذلك و هو ينادي على من معه من جنود و يوجههم و كأننا نستمع الي فيلم و لكنه حقيقي.
كل ذلك و هو في شبه غيبوبة لا يدري بما حوله و لا يدرك انه في المستشفى مصاب و أثناء استماعنا لما يحكيه من أحداث تفصيلية عن مهاجمة النقطة الحصينة و هو يظن انه مازال يحارب و نحن منهمكون في نقل الدم اليه و المحاليل و الحقن اللازمة لعلاج الصدمة فاضت روحه الطاهرة الي بارئها و بعد استشهاده و لأنه لم يكن يوجد إصابات ظاهرة خارجيا الا شظية في كتفه الأيسر و عندما قلبناه اتضح ان الطرف الصغير من الشظية و التي كان يبرز من كتفه هو طرف شظية عبارة عن كتلة من الحديد دخلت من ظهره و اخترقت صدره و خرج طرفها من كتفه الأيسر و احدثت نزيف رهيب ادخله في الصدمة الدموية. و من ملاحظاتي ان هؤلاء الجنود الابطال رغم اصابتهم و جروحهم لا يتأوهون و كأن التأوه عيب و عندما تأتي اليه لتفحصه يطلب منك أن تفحص زميله اولا ليطمئن عليه و يشجعون بعضهم البعض في محبة و اهتمام. لا تعرف هل هم بشر حقيقيون ام أرواح ملائكة في داخلهم.
من خلال عملك بالمستشفى اثناء الحرب كيف رأيت الأسرى من جيش الأعداء وكيف كان يتم التعامل معهم داخل مستشفى السويس العام ؟
منذ الأيام الأولى للحرب و بدأ ورود الأسرى الذين أسرتهم قواتنا من النقط الحصينة لخط بارليف و التي سقطت تباعا الواحدة تلو الأخرى و آخر النقاط كانت نقطة لسان بورتوفيق المواجهة لمدينة السويس استسلمت يوم ٩ أكتوبر.
و كنا مخصصين حجرة في الاستقبال لاستقبالهم و الكشف عليهم و تقديم الرعاية الطبية لمن يحتاجها و كذلك الماء و الطعام و كانت المخابرات الحربية ترسل مندوبين لاستلامهم و ترحيلهم الي القاهرة. و الأسرى كانوا في حالة نفسية سيئة جدا و كان الخوف و الرعب ظاهرا عليهم و قليلي الكلام و الذي لاحظنا عليهم أن معظمهم كان يرتدي ملابس نصفها عسكري و نصفها مدني و شعورهم كثيفة غير محلوقة كعادة الجنود، بل واحد منهم كان يرتدي جورب ملون فردة واحدة و القدم الأخرى بدون جورب مما يدل انهم قد استدعوهم على عجل و تم اسرهم بمجرد وصولهم الي مراكزهم. و مرة واحدة أتوا بأحد الطيارين كانت طائرته قد أسقطت فوق منطقة الجناين و كان ذراعه مكسور، و كان يبدو على وجهه الغضب الشديد لأننا وضعناه في نفس الحجرة مع باقي الأسرى من الجنود و كان منزويا بعيدا عنهم و كأنه قرفان منهم و بعد توقيع الكشف الطبي عليه قام ضابط المخابرات الحربية الذي احضره باستلامه منفردا و مضى به.
كنت في حيرة من هؤلاء الأسرى من الشباب صغير السن و الذين زج بهم في حرب لا ناقة لهم فيها و لا جمل ليكونوا وقود لغطرسة و احلام الجنرالات الاسرائيليين الذين خدعوهم أن المصريين لن يحاربوا و اذا فكروا في الحرب فسنغرقهم في القناة و ان جيش الدفاع الاسرائيلي هو الجيش الذي لا يقهر و عندما تواجهوا لأول مرة مع الجنود المصريين اكتشفوا بعد فوات الاوآن انهم عاشوا اكذوبة روجوها و صدقوها.