من فيلم بداية ونهاية لـ آخر المعجزات.. كيف واجه نجيب محفوظ مقص الرقابة بـ فلسفة الحرية والعدالة؟
ADVERTISEMENT
"الرقابة كما فهمتها ليست فنية ولا تتعرض للفن أو قيمته"، جملة نطق بها كاتب الحارة المصرية نجيب محفوظ في إجابته عن طبيعة مهام الرقابة على المصنفات الفنية، فدائمًا كانت "الرقابة" من وجهة نظره دعم الفن وقيمته، وليس إشهار سيفها المسلول في وجه الأعمال الفنية؛ واستخدام سلطتها كـ "المقص" لقطع ما ليس مناسبًا لها، فالتاريخ يشهد على المعارك الطويلة التي خاضها "أديب نوبل" مع "مقص الرقابة"؛ في محاولة منه للانتصار لـ الحرية والعدل والطبقات المهشمة؛ لذا دعنا عزيزي القارئ نتعرف على رحلة تحديات أفلام نجيب محفوظ مع الرقابة الفنية التي استمرت حتى يومنا هذا.
حرب نجيب محفوظ مع الرقابة
بداية يجب أن تعلم جيدًا أن حرب "نجيب محفوظ" مع الرقابة لم تكن هينة على الإطلاق، فجميع أعمال "كاتب نوبل" الأدبية كانت لها سمة أساسية وهى مناقشة القضايا الاجتماعية والأوضاع السياسية بجرأة، والاندماج مع الطبقات المُهمشة من أجل عرض الواقع بشكل صادق وصادم دون أي تجميل؛ وربما هذا ما جعل "نجيب" العدو اللدود لـ الرقابة، فتنظر لـ الأفلام السينمائية المُقتبسة من أعماله الأدبية بعين النقد المباشر، وتبدأ بإشهار سيفها عليه من خلال اقتصاص أعماله الأدبية والسينمائية؛ في محاولة منها لـ ردعه عن الكتابة أو تغيير نظرته لـ المجتمع، إلا أن "نجيب" لم يستسلم في تلك المعركة حتى الرمق الأخير.
دعونا نبدأ بـ الجولة الأولى التي خاضها "نجيب" مع الرقابة بـ واحد من أشهر أعماله السينمائية والأدبية وهو وفقا لما رصده موقع تحيا مصر فيلم "بداية ونهاية"، الذي تم إنتاجه عام 1960، فهذا الفيلم يعدّ العمل السينمائي الأول لـ نجيب محفوظ الذي واجه مشكلات عدّة مع الرقابة، وهذا لاعتماد قصته على مناقشة حياة الفقراء والطبقات المٌهمشة، وهو ما جعل الرقابة متشددة على بعض المشاهد التي تطرح انتشار الفقر والفساد في المجتمع المصري بكل وضوح.
"اللص والكلاب"... أيقونة نجيب محفوظ
أما الفيلم الثاني فهو فيلم "اللص والكلاب" وتم إنتاجه عام 1962، فهذا الفيلم يحظى بشهرة كبيرة حتى وقتنا الحالي، ويقدم فيه شخص خارج عن القانون في صورة "بطل شعبي" يواجه الظلم والفساد، ويتمرد على المجتمع والظروف التي عايشها، بالإضافة لـ إشارته لـ الفاسدين وتحولهم إلى رموز مرموقة في المجتمع؛ في إشارة واضحة لـ حال المجتمع في ذلك الوقت، فاعتبرته الرقابة تحريض صريح لـ المهمشين على القتل ومواجهة رموز المجتمع والإشارة إليهم بـ الفساد، إلا أن نجيب محفوظ انتصر في تلك المعركة بتحول هذا الفيلم لـ أيقونة يشاهدها المصريين والبسطاء حتى اليوم وبعد وفاته.
وينال الفيلم الثالث "زقاق المدق" الذي تم إنتاجه عام 1963، نصيبه من "مقص الرقابة" وعداوتها، فعرض هذا الفيلم مشاهد جريئة عن انتشار الفقر والدعارة والعلاقات الاجتماعية المعقدة بطريقة مباشرة؛ وهو ما جعل الرقابة تعترض على بعض المشاهد وتصفها بالجرأة، خاصة فيمَا يتعلق بـ مشاهد "الدعارة" التي جسدها "نجيب" في كتابته، وكعادتها رأت أن هذا الفيلم يعرض صورة سيئة لـ المجتمع المصري ويقدمه بصورة سلبية، ورأته غير مناسب لـ العرض؛ خاصة مع فتح قضايا خاصة بـ المحرمات في ذلك الوقت.
"بين القصرين" والتحول السياسي
ويأتي بعدها فيلم "بين القصرين" الذي تم إنتاجه سنة 1964، فهذا الفيلم هو جزء من ثلاثية "نجيب محفوظ" الشهيرة، فاستطاع من خلالها رصد حياة الأسرة المصرية في ذلك الوقت بعين واقعية، وتحديدًا في حقبة التحول السياسي والاجتماعي من بداية الاستعمار البريطاني حتى الثورة المصرية، وكالمعتاد رأت النقابة في هذا الفيلم نقد للأنظمة السياسية المتحكمة، وعرض أفكار خاصة بـ الحرية والعدالة، وهو ما تعتبره الرقابة عدو لدود بالنسبة لها.
أما فيلم "ميرامار" الذي تم عرضه عام 1969، فواجه الصعوبات ذاتها؛ لعرضه المجتمع والفساد المنتشر في بعض الطبقات بشكل واضح، فرأت الرقابة أنه يحمل في طياته تحريضًا لـ المواطنين على الأوضاع الاجتماعية، خاصة أنه تم تقديم الفيلم في حقبة سياسية شديدة الحساسية عقب النكسة؛ فمن ذلك الوقت والرقابة أصبحت متشددة مع أعمال نجيب محفوظ الأدبية والسينمائية بشكل أعنف من قبل؛ وذلك من أجل حماية نظام وسياسة الدولة آنذاك من النقد أو الهجوم.
ويليه فيلم "ثرثرة فوق النيل"، فتم عرضه عام 1971، الذي نال القدر الأكبر من هجوم الرِّقابة، وكان يناقش قضايا الفساد الإداري بشكل مباشر، بالإضافة لاستعراض السلبيات التي سيطرت على مؤسسات الدولة منذ حقبة الستينيات، وهو ما جعل الرقابة تمنع عرضه لـ فترة، وتسبب في مشكلات كبيرة لـ "نجيب محفوظ"، لكن "أديب نوبل" لم يستسلم وتم عرض الفيلم ولا زال واحدًا من أهم أفلام السينما المصرية.
"آخر المعجزات" والمنع من العرض
ومع كل هذا التحديات لم تكتفِ الرقابة من عداوتها لـ "كاتب الحارة المصرية" حتى بعد وفاته، ففي عام 2024 ومع تطور الأزمنة ومرور السنوات، لا زالت الرقابة تتمسك بـ إشهار سيفها ضد الحرية والإبداع، وبالتحديد مع أعمال "أديب نوبل"، ففجأة تقرر منع عرض فيلم آخر المعجزات المٌقتبس من القصة القصيرة "معجزة" لـ نجيب محفوظ، وتقرر في اللحظة الأخيرة سحب تراخيص الفيلم؛ لمنع عرضه في افتتاح مهرجان الجونة، وكأن شبح "محفوظ" ما زال يطارد الرقابة بعد كل هذا السنوات، فمن الذي سينتصر في هذه المعركة فلسفة "نجيب محفوظ" عن الحرية والعدالة أما مقص الرِّقابة؟ .