سوبر "ك" أو كيسنجر الأسطورة!
ADVERTISEMENT
رحل هنري كيسنجر، سوبر "ك" أو الدبلوماسي الأسطورة الأكثر إثارة للجدل والخلاف في الولايات المتحدة وخارجها. جاءت تلك التسميات على خلفية النجومية والشهرة التي صنعها عندما قاد تطبيع العلاقات بين بلده والصين لأول مرة عام 1971، كما قاد الجهود لوقف إطلاق النار في فيتنام وخروج بلاده من الحرب الكارثية ليفوز بجائزة نوبل للسلام عام 1973. ثم رعى جهود السلام بعد حرب أكتوبر 73 بين مصر والدولة العبرية. وكان العقل المدبر لإذابة الجليد في العلاقات الأمريكية السوفياتية.
ولكن في المقابل، كان كيسنجر أيضا المتهم الأول بإطالة أمد الحرب في فيتنام وامتدادها إلى لاوس وقبلها كمبوديا مع عواقب ذلك الكارثية في التسبب بإزهاق أرواح الملايين. وهو من شجع الرئيس نيكسون على دعم الرئيس الباكستاني يحيى خان في قمعه للقوميين البنغاليين وإعطاء الضوء الأخضر لتركيا لغزو قبرص عام 1974 وأندونيسيا لمهاجمة تيمور الشرقية عام 1974. وقد ساند المجلس العسكري في الأرجنتين وانقلاب بينوشيه في شيلي والحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق. بمعنى آخر، كانت بصمة كيسنجر في السياسة الخارجية الأمريكية لا تمحي في كل منطقة تدخّلت فيها الولايات المتحدة، ومازالت تلقي بظلالها حتى الآن على أفكار المريدين والأعداء على حد السواء.
ولعل أصل "هاينز كيسنجر" كيهودي ألماني، حيث ولد عام 1923 بمدينة فورث في بافاريا، جعل طفولته غير عادية بالمرة بدءً من هروب عائلته إلى الولايات المتحدة عام 1938 بعد مقتل 12 من أفراد عائلته، مرورا باستقراره في واشنطن هايتس -ذلك الحي المعروف بالرايخ الرابع نسبة لكثرة المهاجرين الألمان-وصولاً إلى أنه أصبح "هنري الأمريكي" الطموح الداهية الذي "يلعب بالبيضة والحجر" ويصنع السياسات الخارجية الأمريكية.
ومنذ عام 1943 دخل أروقة صنع القرار الأمريكي من سلمه الأدنى، حيث عمل كضابط مخابرات في الجيش الأمريكي في أوروبا وذلك بعد ان أنهى مدة تجنيده في "كمب كلايبور" بولاية لويزيانا. ثم بدأ مسيرته الأكاديمية بجامعة هارفارد بعد عودته من أوروبا، حيث أصبح لاحقا أستاذا بها للعلوم السياسية. وبرزت مواهب كيسنجر حيث شغل منصب مستشار الأمن القومي من 1969 حتى 1973، ثم وزيرا للخارجية، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 1977 مع الرئيسين نيكسون وفورد، وكان أول يهودي أمريكي يقوم بذلك. وتألق نجمه في تلك الفترة من خلال اختراقات سياسية فائقة الأهمية حيث قاد عودة العلاقات مع الصين والاتحاد السوفياتي. مهد كيسنجر الطريق للرئيس نيكسون للتطبيع التاريخي مع بيكين ولقائه في يوليو 1971 بمؤسس الصين الشعبية ماو تسي تونغ. تلاها زيارة نيكسون لموسكو في مايو 1972 وهي الأولى من نوعها لرئيس أمريكي، والتقى الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف ووقعا المعاهدة الاستراتيجية الأشهر للحد من التسلح وهي اتفاقية عسكرية شديدة الأهمية حددت مائتين من الصواريخ الباسلتية المضادة والتي تقاسمها النظامين الدفاعيين.
ورغم أعوامه المائة، كرر كيسنجر في مايو الماضي اختراقاته عندما زار بيكين بعد عام من وقف الصين علاقاتها بسبب الدعم الأمريكي لاستقلال تايوان. وينظر الكثيرون في بكين إلى كيسنجر على أنه "صديق للصين" ليس فقط لدوره المحوري في الانفتاح الأميركي على الصين الشيوعية ولكن أيضا لتفادي صراع حالي قد يكون أثره السياسي والاقتصادي كبيرا على العالم بأسره.
من أهم ما قاله كيسنجر قبل رحيله في حوار مطول يونيو الماضي مع "بلومبرغ" أجراه رئيس التحرير جون ميكلثويت أن الشيء الوحيد الذي يعرفه على وجه اليقين هو أنه لا يمكن كسب الحروب بين قوتين عظميين. هذا ينطبق على المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية على الأرض الأوكرانية والصراع الأمريكي الصيني. أوضح كيسنجر أن قلة من السياسيين المعاصرين لديهم خبرة في الحرب والصراع وهذا يمكن أن يلقي بظلاله على قراراتهم وأحكامهم. كما أكد أن القادة الذين لم يمروا بتجربة الحروب والكوارث "يعتقدون أحيانًا أن لديهم خيارات أكثر مما لديهم بالفعل".
هذه الحكمة التي نطق بها هذا المخضر مؤخرا، وبعد "وحل أمريكي" في الشرق الأوسط وآسيا شارك فيه كيسنجر نفسه وليس بريئا منه، هي الحقيقة الوحيدة التي نشاهدها يوميًا في تصرفات ومواقف زعماء العالم، وأولهم الأمريكيون!
ربما أصبح العالم أكثر سعادة لو كان الثعلب العجوز بمثل هذه الحكمة وهو في مطبخ صنع القرار الأمريكي ومنع السياسات الأمريكية الجائرة التي أوصلت العالم إلى مربع الكوارث!