ياسر حمدي يكتب: الجنود الخفية في نصر أكتوبر المجيد
ADVERTISEMENT
إن الإنتصار الذي حققه الجيش المصري العظيم في حرب أكتوبر 1973 المجيد، سيظل شاهدًا على شجاعة وقدرة الجندي المصري، الذي كان أخطر وأهم سلاح في معركة المصير، واستطاع مواجهة أحدث وسائل ومعدات القتال الإسرائيلية صلبًا صامدًا دون أن يهاب الموت أو ترهبه نقاط العدو الحصينة التي تم بناؤها على طول قناة السويس، الأمر الذي غير مفاهيم العلوم العسكرية، ونظريات القتال الحديثة في جميع دول العالم بعدما أثبت المقاتل المصري قدرته على حسم المعركة، في مواجهة المعدات والآليات الحديثة والمقاتلات المتطورة.
معركة السادس من أكتوبر المجيدة أثبتت قدرة القوات المسلحة المصرية على قهر الصعاب ومواجهة التحديات وتحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الزائفة التي صنعتها أجهزة الإعلام الغربية ووسائل الشائعات والحرب النفسية، التي كانت تستهدف النيل من معنويات المقاتل المصري وإيهامه بأن عبور قناة السويس حلم لن يتحقق، لكن عزيمة الجيش المصري القوية كانت لا تقهر، وحقق رجالنا النصر المبين في معركة العزة والكرامة، وعبر الجيش قناة السويس، ودمر خط بارليف وجميع النقاط الحصينة شرق القناة، وأزال الساتر الترابي، وخاض معارك ضارية، على مستوى جميع الأسلحة.
ملحمة تاريخية لم يتوقعها اليهود، حيث صدمتهم قوة الجندي المصري، الذي حطم أسطورتهم العسكرية الحصينة، بعد أن فاجأتهم القوات المسلحة بأكبر خدعة عسكرية آثارها ستظل ذكرى أبدية في عيدهم «الغفران»، لأن في ميدان المعركة فكر المقاتل المصري خارج الصندوق لكي يعبر مانع خط بارليف الحصين، في لقطات مضيئة رسمها الأبطال البواسل من جنودنا بدمائهم الذكية، وحققوا انتصارًا تاريخيًا عظيمًا، مازال العالم يدرسه في جميع الأكاديميات العسكرية حتى الآن.
ومع الجندي المصري العظيم كان هناك مقاتل آخر لم يحمل السلاح ولكنه إستخدم القلم في شن حرب إعلامية ضد العدو الذي أدعى أنه لا يقهر، وذهب أيضًا إلى أرض المعركة لينقل الأحداث واللقطات وبعض القصص عن جنودنا البواسل تحت خط النار، وكان له دورًا بارزًا في تأهيل جنودنا معنويًا ونفسيًا لخوض الحرب، خصوصًا بعد هزيمة ١٩٦٧، والتي كان لها أثر سلبي على معنويات الجيش، وكان لابد من إزالة أثاره.
شارك المراسلين الصحفيين العسكريين في نصر أكتوبر المجيد ببسالة وشجاعة، وكان دورهم لا يقل أهمية عن دور الجندي المقاتل الذي يحمل السلاح أو يقود الدبابة أو يحلق بالطائرة أو يطلق الأعيرة النارية بالمدافع، فكانوا جنودًا خفية في معركة النصر، فبعد نكسة يونيو ١٩٦٧ تم وضع خطة للإعداد النفسي والمعنوي للمقاتلين تحت إشراف القيادة العامة للقوات المسلحة في تلك الفترة، وبالتعاون مع عدد من أشهر المراسلين العسكريين على جبهة القتال أمثال الأستاذة العظام «صلاح قبضايا، وعبده مباشر، ومحسن زايد، والفنان الكبير أحمد بدير» وغيرهم من الجنود الخفية التي شاركت في العبور، وكان لهم دور كبير في الخطط الإعلامية للحرب.
وتم إنتاج برنامج إذاعي بإسم «جند الله» من أجل التوعية العامة للضباط والجنود، واستعادة الثقة في المقاتل المصري، الذي كان لابد من تأهيله نفسيًا ومعنويًا، وبالفعل نجح جنودنا البواسل من الصحفيين في زيادة مستوى الوعي الثقافي لرجال وجنود القوات المسلحة، بشهادة عدد كبير من قادتها في ذلك الوقت أمثال «اللواء محمد سعيد محمود، واللواء ناجي شهود، واللواء عبد الوهاب سيد عبد العال، واللواء دكتور سمير فرج» وغيرهم.
تم التركيز في البرنامج على آيات الجهاد والاستشهاد، في القرآن الكريم، وتقديم وجبة إذاعية قوية للجندي على جبهة القتال لرفع روحه المعنوية، وقد إستمر البرنامج «جند الله» في الإذاعة خلال الفترة من عام 1969 وحتى عام 1974، وقد كان له دور كبير في دعم منظومة التأهيل النفسي والمعنوي التي تتبناها القوات المسلحة بالتعاون مع المراسلين العسكريين في ذلك الوقت، إلى جانب ندوات التوعية الدينية والثقافية التي كان يتم استقدامها للوحدات المقاتلة على الجبهة.
كانت بداياتي الصحفية في مدرسة علي أمين ومصطفى أمين، وتتلمذت على يد العملاقين الكبيرين الأستاذ الكبير ياسر رزق رحمة الله عليه، وعمنا الأستاذ القدير ممتاز القط، وكانت المؤسسة تحتفل في كل عام بيوم العزة والكرامة، وكان عمنا الأستاذ الكبير فاروق الشاذلي، وهو كان من ضمن محرري مؤسسة أخبار اليوم، الذين وثقوا بأقلامهم وصورهم تفاصيل الملحمة الكبرى ليوم العبور، كان يروي لنا أن المحررين في يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ لم يتمكنوا من التواصل مع الجهات العسكرية، لسحب بعض الخطوط لصالح التحركات، بسبب السرية في العمليات مع تكرار البيانات عسكرية، حتى جاء البيان الذي كان يحلم به كل المصريين بأن الجيش عبر قناة السويس ورفع العلم خفاقًا على الشاطئ الشرقي فوق رمال سيناء.
صالة التحرير تحولت إلى مكان للاحتفال وقتها وعبر الجميع عن سعادتهم مهللين الله أكبر ولله الحمد، وسجد الجميع لله شكرًا كما كان يروي لنا عمنا المقاتل فاروق الشاذلي، وأكد أنه تم إلغاء المواد المعدة للنشر حينها، وتم إصدار أكثر من طبعة تحمل متابعة فورية لكل جديد، ثم تم إختيار القدير فاروق الشاذلي والفنان الكبير المصور مكرم جاد الكريم، للانطلاق مع قافلة إعلامية إلى السويس مع أول ضوء يوم 7 أكتوبر، وتم صرف أفرول لكل محرر عسكري.
وحكى لنا أن القافلة تعرضت لغارة جوية معادية بمجرد وصولهم إلى البر الغربي، فقاموا بالاختباء في أحد الدكاكين، ومع انتهاء الغارة تحركت القافلة إلى مكان آخر حتى يتمكنوا من رصد انطلاق قواتنا المسلحة وهم مندفعين بكل بطولة إلى البر الشرقي لقناة السويس من أحد المعابر لدعم المجموعات التي عبرت ومعاونتهم في تحطيم خط بارليف المنيع.
الأستاذ الشاذلي كان قد أكد أن المسئولين رفضوا عبورهم لأن الأولوية كانت للقوات والمعدات المشاركة في القتال، ثم انطلقوا إلى مكان آخر وتعرضوا خلال سيرهم لغارة جوية أخرى ولكن تصدت لها وسائل دفاعنا الجوي وسقطت طائرة فانتوم إسرائيلية، وفي هذه اللحظة تمكن عمنا الأستاذ الفنان مكرم جاد الكريم من التقاط صورة لها.. وكانت طائرة أخرى تحاول الهروب فتغمرهم بالرمال، ثم يقوم الأستاذ فاروق الشاذلي بالذهاب والتسلق على سلم لوري عسكري حتى يصل إلى قيادة الجيش الثالث الميداني ليبلغ الجريدة باللقطة.
وعندما عاد الأستاذ فاروق الشاذلي إلى مكتب الأستاذ الكبير موسى صبري رئيس التحرير في ذلك الوقت، التقط الأخير له صورة بالأفرول الذي حضر به ووضع إنفراد الأستاذ مكرم جاد الكريم لصورة الطائرة الإسرائيلية المحطمة بالصفحة الأولى وترك له الأخيرة، ليكتب الأستاذ فاروق الشاذلي أول رسالة له من الجبهة.
وقص علينا عمنا فاروق الشاذلي أنه لحظة عبوره قناة السويس يوم الثامن من أكتوبر، انسابت دموعه وهو يقبل الأرض ويتيمم برمال سيناء، كما كان يروي لنا قصة دخوله إلى مدينة القنطرة شرق بعد تطهيرها من دنس الإحتلال الإسرائيلي وكان يتجول في مركز القيادة المتقدم للعدو بعد أن حرره أبطالنا في معركة ضارية استخدموا فيها السلاح الأبيض والقتال المتلاحم.
وكان يحكي كيف سارع الجنود البواسل في ترميم مسجد المدينة بعد أن حاول العدو تدميره لينطلق فيه صوت أحد الجنود بأذان الظهر «الله أكبر.. الله أكبر»، وكانت هذه رسالته الثانية من الجبهة عن معركة القنطرة شرق التي قام بها أبطال الفرقة 18 في بطولة خارقة كان يعتقد الكثيرون أن مكانها الأساطير، فأصبحت واقعًا وحقيقة بسواعد المصريين من رجال الجيش الثاني الميداني الذين لا يعرفون المستحيل.
أما الأستاذ الكبير جمال الغيطاني، فكان يعمل مراسلًا صحفيًا عسكريًا لجريدة أخبار اليوم، وكان يروي العديد من القصص عن ملحمة النصر، وكيف كان للطيار المصري دور عظيم في الحرب، كما كان يقص علينا القصص العظيمة عن بطولات قوات الدفاع الجوي في إسقاط طائرة استطلاع متقدمة بمقاييس الوقت، كان اسمها «ستراتو كورز»، ورغم صعوبة إسقاطها لِما تحمله من إمكانات متقدمة، إلا أن الجندي المصري العظيم تغلب عليها، بقاعدة أبو صوير واعتبرت هذه اللحظة محطة فارقة في تاريخ الحرب.
وكان يحكي لنا عن قصة حصار منطقة كبريت، والتي أظهرت بسالة وشجاعة المقاتل المصري أثناء حرب أكتوبر، وظهر خلالها قوة الجنود المصريين أمام الحصار والذي استمر 134 يومًا مات خلالها الناس جوعًا، ورغم ذلك لم يسقط علم مصر عنها، واستشهد الجندي الذي ظل على جبل عتاقة طوال هذه الفترة، وكان يتغذى على ورق الشجر.