ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (١٧)
ADVERTISEMENT
أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».
هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.
مقالي السابع عشر في السيرة العطرة لسيد الخلق وخاتم المرسلين محمد النبي الصادق الأمين بعنوان «غزوة الخندق»، وتُسمى أيضاً «غزوة الأَحزَاب»، وهي غزوة وقعت في شهر شوال من العام الخامس من الهجرة؛ الموافق مارس 627م؛ بين المسلمين، والأحزاب الذين هم مجموعة من القبائل العربية المختلفة التي اجتمعت لغزو المدينة المنورة والقضاء على المسلمين والدولة الإسلامية.
وسبب غزوة الخندق هو أن يهود بني النضير نقضوا عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله، فوجَّه إليهم جيشَه فحاصرهم حتى استسلموا، ثم أخرجهم من ديارهم.. ونتيجةً لذلك، همَّ يهود بني النضير بالانتقام من المسلمين، فبدأوا بتحريض القبائل العربية على غزو المدينة المنورة، فاستجاب لهم من العرب: «قبيلة قريش وحلفاؤها: كنانة (الأحابيش)، وقبيلة غطفان (فزارة وبنو مرة وأشجع) وحلفاؤها بنو أسد وسليم وغيرُها»، وقد سُمُّوا بالأحزاب، ثم انضم إليهم يهودُ بني قريظة الذين كان بينهم وبين المسلمين عهدٌ وميثاقٌ.
بعد أن خرج يهود بني النضير من المدينة إلى خيبر، خرجوا وهم يحملون معهم أحقادهم على المسلمين، فما أن استقروا بخيبر حتى أخذوا يرسمون الخطط للانتقام من المسلمين، فاتفقت كلمتهم على التوجه إلى القبائل العربية المختلفة لتحريضها على حرب المسلمين، وكونوا لهذا الغرض وفدًا يتكون من: «سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس، وأبي عمار».
وخرج الوفد الذي يتكون من عشرين رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش التي قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذ سمعتها والبر بكلمتها.
ثم خرج هذا الوفد إلى غطفان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً، فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك، فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح سادة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته والمسلمين.
وقد وافقت قريش على غزو المدينة لأنها شعرت بمرارة الحصار الاقتصادي الذي ضربه عليها المسلمون، ووافقت غطفان طمعًا في خيرات المدينة وفي السلب والنهب.. وقد قال وفد اليهود لمشركي مكة: «إن دينكم خيرٌ من دين محمد، وأنتم أولى بالحق منه»، وفي ذلك نزل قول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢)} [النساء: ٥١ - ٥٢].
وقد أبرم الوفد اليهودي مع زعماء أعراب غطفان اتفاقيةً ضد المسلمين، وكان أهم بنود هذا الاتفاق هو: «أن تكون قوة غطفان في جيش الاتحاد هذا: ستة آلاف مقاتل .. وأن يدفع اليهود لقبائل غطفان (مقابل ذلك) كل تمر خيبر لسنة واحدة».
وفعلاً، خرجت من الجنوب قريش من كنانة في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان صخر بن حرب حتى نزلوا وادي العقيق، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران وهم سبعمئة يقودهم سفيان بن عبد شمس، وخرجت من الشرق بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد، وقبائل غطفان (بنو فزارة)، يقودهم عيينة بن حصن، وبنو مرة وهم أربعمئة يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع وهم أربعمئة يقودهم مسعر بن رخيلة، ونزلت غطفان بجانب أحد.
ثم اتجهت هذه الأحزاب، وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه، وبعد أيام، تجمَّعَ حول المدينة جيش يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، أربعة آلاف من قريش وأحلافها كنانة، وستة آلاف من غطفان وأحلافها بني أسد وسليم.
علم بذلك المسلمون، فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق في الجهات المكشوفة حول المدينة، فحُفِر بعد أن قاسى المسلمون في حفره متاعب شديدة، وما زالوا به حتى أحكموه وأقاموا الحراس عليه، وأقبلت الأحزاب ونزلوا بظاهر المدينة بجانب أحد، وخرج صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، وضرب هناك عسكره والخندق بينه وبين القوم.
فترامى الفريقان بالنبال أيامًا شعر المسلمون فيها بضيق الحصار واشتداد الحال عليهم، ونقضت بنو قريظة العهد؛ فعظم عند ذلك البلاء على المسلمين، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حيث قال تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: ١١]، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم: إن محمدًا كان يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الخلاء.