ياسر حمدي يكتب: شيخ الأزهر.. ومبدأ المواطنة
ADVERTISEMENT
أعقاب الحادث الأليم الذي وقع الأحد الماضي في كنيسة أبو سيفين في المنيرة الغربية بـ إمبابة سارع العديد من رجال الدولة ومشاهير ونجوم مصر أمثال النجم العالمي محمد صلاح لاعب فريق ليفربول بتقديم المساعدات المادية والمعنوية للمصابين، كما قدم كل أبناء الوطن التعازي والمواساة لأسر الضحايا في الفاجعة التي أدمت قلوب كل المصريين.
لكن ما قام بيه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف فاق توقعات البشر أجمعين، فما فعله كان تجسيد حقيقي وفعلي بل وعملي على أرض الواقع لتحقيق مبدأ المواطنة، فمعظمنا في مصر يتحدث عن كلمات وخطب ومواعظ كثيرة عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، لكن صدقًا ما فعله الإمام كان ترجمة حرفية وتجسيد فعلي لفكرة ومبدأ المواطنة، الذي نردده كثيرًا، ونطبقه قليلًا.
إن ما فعله فضيلة الإمام الأكبر يختصر مواعظ كثيرة عن المواطنة والمصير الواحد، وبكل تأكيد فإن هذا التصرف والإجراء النبيل لأكبر رأس في المؤسسة الإسلامية ليس فقط في مصر، ولكن في العالم الإسلامي بأكمله، هو أفضل من مليون فتوى، لأنه يترجم عمليًا فكرة التضامن والتآزر بين المسلمين والمسيحيين، ويرد على أسئلة ساذجة كانت لا تخرج إلا من أفواه المتنطعين، وبهذا يكون قد أغلق الباب أمام أصحاب «فتاوي الترند» المثيرة للجدل في هذه المواضيع الهامة.
شيخ الأزهر الشريف يستحق المزيد من التحية والتقدير والإحترام على موقفه بعد حادث حريق الكنيسة، فالرجل الصعيدي الشهم أتخذ خمسة إجراءات مهمة عقب وقوع هذا الحادث الأليم الذي أودى بحياة نحو ٤١ شخصًا، ترجم فيهم ردودًا فعلية لفتاوي لأسئلة واقعية كانت محل إهتمام بالنسبة للعديد من أفراد المجتمع، وبهذا التصرف الجلل حسم الكثير من الجدل العبثي عن مدى جواز أن يقدم المسلم المساعدة للمسيحي في وقت الأزمة، وهل يجوز أن نعزيهم في أمواتهم أم لا؟!.. وهو جدل شديد العبثية، لكن الحمد لله أن إجراء الإمام الأكبر يضع حدًا لمثل هذا الكلام في المستقبل.
الإجراءات الخمس التي أتخذها الدكتور الطيب، تمثلت في تقديم واجب العزاء للبابا تواضروس والأخوة المسيحيين وجميع المصريين في ضحايا الحريق.. والإجراء الثاني هو وضع مستشفى الأزهر تحت التصرف لاستقبال المصابين في الحادث مع تقديم الدعم النفسي لهم.. أما الإجراء الثالث فكان عبارة عن التوجيه بصرف إعانات نقدية عاجلة لعائلات المتوفين.. والإجراء الرابع هو تكليف وفد أزهري رفيع المستوى برئاسة الدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر ومعه قيادات الأزهر بزيارة المصابين ومؤازرة ذويهم.. والإجراء الخامس هو تقديم الوفد الأزهري العزاء في ضحايا الحادث الأليم.
بهذه الإجراءات الهامة الأزهر يؤكد من خلالها أنه وشيوخه يقفون جميعًا إلى جانب إخوتهم، وأن الأزهر بكل ما يمثله من قيم ورموز ومعان يقول لكل المسلمين إنه واجب عليهم أن يقفوا بجوار إخوتهم الأقباط في الأحزان والملمات.
شيخ الأزهر تبنى من قبل موقفاً واضحاً وصريحاً من كل الدعوات التي كان يروج من خلالها البعض أن المسيحيين «أقلية» في وطنهم، وأنهم غير متساوين في الحقوق والواجبات مع المسلمين، حيث رفض الأزهر ممثلًا في شيخه وقتها كل هذه الدعوات الشاذة، وأصدر في هذا الصدد وثيقة تاريخية حملت عنوان: «إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك».
وكان أول المبادئ التي أكدها الأزهر الشريف، في هذا الإعلان التاريخي وقتها أن المسلمين والمسيحيين أخوة في الإنسانية، وشركاء في الوطن، وجميعهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وأن «المواطنة» مصطلح أصيل في الإسلام، وأن على المثقفين الانتباه من خطورة إستخدام مصطلح «الأقليات»، الذي يحمل في طياته معاني التمييز والانفصال بداعي التأكيد على الحقوق، وغير ذلك من المبادئ والحقوق الهامة للأخوة المسيحيين في الوثيقة، واليوم أكد الإمام الأكبر أنه رجل أفعال لا أقوال.
مرة أخرى يحسب للعالم الجليل شيخ الأزهر أن موقفه الأخير هو مجموعة من الفتاوي الحية المهمة التي يفترض أن تغلق الباب على الكثير من الجدل فيما يتعلق بعلاقة المسلمين والمسيحيين.. وهو موقف يترجم عمليًا كل ما كنا نقوله جميعًا نظريًا، وهذا الكلام النظري ومن فرض تكراره الممل لم يعد كثيرون يثقون به، لوجود مسافة كبيرة من التناقض بين الأقوال والأفعال.
الذي حدث هذه المرة هو العكس، الأزهر أقدم على الأفعال أولآ، وهي رسالة منه للجميع المسيحيين والمسلمين، تقول أننا أخوة في الإنسانية، وأن المواطنة أصل من أصول الإسلام، وأن الوطن مصر هو موطن حقيقي لكل المصريين وجب علينا جميعًا الحفاظ عليه بعدم الإنسياق وراء أصحاب مصطلح الأقليات، وأغلق الباب أمام المتطرفين في الفكر سواء الإسلامي أو المسيحي بتأكيده على أن الجميع مصريين ومتساوون في الحقوق والواجبات.. تحية إجلال وتقدير وفخر واجبة لفضيلة الإمام الأكبر ولكل علماء مشيخة الأزهر الشريف.