ألفة السلامي تكتب: في بيتنا ثانوية عامة!
ADVERTISEMENT
مما لاشك فيه أن الثانوية العامة هي سنة مصيرية ليس فقط لأن الامتحان مازال يحدد مصير الطالب في بقية سنوات عمره ولكنْ لأنها مرحلة انتقالية بين الدراسة الثانوية والجامعية. وكلما تعامل معها الطلاب والأهل بهدوء وكأنها أقرب ما تكون لسنة عادية كلما كانت النتيجة النهائية أفضل.
لكن الواقع يؤكد أن العائلات ليست أبدًا في حالة هدوء بل على العكس من ذلك، يزدادُ الغليان وفوضى المشاعر كلما اقتربت ساعة بداية الامتحانات. وعادة ما تُشبّه بالكابوس أو البعبع، ويكفي أن يقولَ شخصٌ "في بيتنا ثانوية عامة" حتى يدرك من حوله هول الحدث ويتعاطف الجميعُ معه. وهو أمر خطير ينعكس على مردود الطلاب بالسلب. وتحاول الوزارة المضيَّ في تنفيذ التطوير على المناهج وأسلوب الامتحان بحيث تكون عادلة لجميع مستويات الطلاب وتحقق المساواة في الفرص، وتمكن الطالب المُتفوق والذكي من التميز والمتوسط والضعيف من الحصول على درجات تعكس مستواهما. لكن الأهل غرسوا في عقول أبنائهم طيلة ثلاث سنوات ماضية من التعليم الثانوي أن الامتحانات بالنظام الجديد الذي تطبقه وزارة التربية والتعليم ماهو إلا "بيت أشباح" لذلك لا نتوقع اليوم أن يتغيرَ في نظرهم وتتحول الأشباح إلى ملائكة الرحمة قبل دخول الامتحان.
وقد يحق لنا كمجتمع التعبير عن القلق مع المفاهيم الجديدة التي تطبقها الوزارة، لكن المجتمع ليس متخصصا وقليلون فيه يملكون القدرة على نقد المناهج وما يحدث من تطوير.
والمشكلة الدائمة أن الجدل الدائر حول التطويرمعطِّلٌ للطلابِ لأنهم يتأثرون بما يُقال واختلاط الصالح بالطالح. ولا أتذكّرُ منذ بدأتُ عملي في الصحافة قبل عقود أن هذا الجدل قد اختفى أو تراجع في فترة معينة، بل بالعكس هو مشكلة دائمة لا تختفي. كما تقابلها مشكلة أخرى أشد خطورة وتتمثل في كون كل أسرة تريد من أبنائها الوصول للتعليم الجامعي ولكليات القمة "لأننا بلد شهادات" حتى وإن كانت كليات القمة لا تتناسب مع قدرات أبنائهم ومستواهم العلمي. ويسعون لذلك بكل الطرق، بما في ذلك الدروس الخصوصية التي تحظرها الوزارة ويدعي الناس أنها "خربت بيوتهم" ومع ذلك يتحايلون بكل الطرق لتمكين أبنائهم من حضورها؛ والموضة الآن أن الدروس تبدأ منذ الحضانة بحجة تدريب الأطفال وأوليائهم على "انترفيو" القبول في المدارس الخاصة. وتستمرّ بنسق متصاعد حتى تصبح شاملة لكل المواد في الثانوية العامة.
ولا أدري بالضبط كم يبلغ الإنفاق على هذه الدروس الآن ولكنها مليارات كثيرة أثقلت كاهل العائلات وجعلتهم في ضغط نفسي دائم؛ وهم بدورهم يصدِّرون مشاعرهم لأبناءهم الطلاب ويضعونهم تحت ضغط نفسي رهيب حتى يحصلوا في الثانوية العامة على مجاميع تؤهلهم لدخول كليات القمة. والضغط لا يتوقف حتى بدخولها وإنما يتضاعف لأسباب مادية ومعنوية حتى ينجحوا في كلية قد لا يرغبون دخولها وهي أحلام أولياء الأمور في المقام الأول الذين حصروا أنفسهم في نظرة المجتمع الشكلية لكليات مرموقة بعينها ومرتبطة بالوجاهة الاجتماعية لاغير، دون البحث عما يلائم قدرات الطلاب وتطلعاتهم. إنه أمر بشع للغاية أن الأهلَ وهم أقرب الناس للأبناء وأكثرهم حبّاً لهم يقتلون أحلامهم ويحددون الفرص أمامهم ويجعلون لكل شاب فرصة واحدة في حياته ويحكمون عليه بالفشل إذا ابتعد بمساره عنها. ولا يشعر الأهل بأي إثم أو جريمة وهم يقتلون الشغف لدى الأبناء منذ الطفولة المبكرة.. ذلك الشغف الذي يدفعهم للتعلم والتميز وخدمة أنفسهم ومجتمعهم وتحقيق طموحهم.
ورغم أنّ الوزارة تقدم تسهيلات عديدة للطلاب للتدريب على أسئلة امتحانات نهاية العام وتتيح مئات الأسئلة على بنك المعرفة والمنصات التى تشرف عليها، إلاَّ أنَّ الإشاعات والتوقعات المشوِّشة للطلاب لا تنتهي. ومن يتابعُ صفحات التواصل الاجتماعي يدرِكُ إلى أيِّ مدى تستهلكُ تلك الفوضى الطلابَ وتشتِّتُ تركيزَهم. ومن المفروض أن تكون التدريبات المتكررة التي تلقاها الطلاب على طريقة امتحانات نهاية العام من خلال الاختبارات التجريبية التى عقدتها الوزارة عناصر مهمة في جذب الاطمئنان لدى الطلاب وأهاليهم. لكن هذا لم يتحقق هذا العام مثله مثل السنوات الماضية. كما أن انخفاض مجاميع القبول بالكليات العام الماضي عاملاً قد يكون مهدئا لأعصاب الجميع، طلاباً وأهاليَ، بحيث يدركون أنَّ فرص دخول الجامعات متاحة للذين حصلواعلى مجاميع منخفضة. ولم يحدث ذلك أيضاً.
ولعلّي لا أبالغُ لو قلتُ أن الثانوية العامة "حالة مصرية" غير مسبوقة، ولا تشبه غيرها من الشهادات في دول العالم، ربّما لضخامة العدد المتقدم للحصول على الثانوية العامة في مصر والذي يتجاوز 700 ألف طالب؛ وهو في حجم عدد سكان بعض الدول. وكذلك لطول مدة الامتحانات التي تُجرى بين يونيو ويوليو وتتوقف في إجازة عيد الإضحى، وأخيراً لكثرة المواد بداية من الموّاد غير المضافة إلى المجموع النهائي، وبعدها تبدأ المواد الأساسية ثم المواد الخاصة بكل شعبة. وقد بحثتُ في الدول المعروفة بامتحانات ختم المرحلة الثانوية ووجدت أن غالبيتها تختصر مدة الامتحانات بحيث لا تتجاوز أسبوعاً والمواد بحيث تكون سبعة فقط.
اقرأ أيضا:- ألفة السلامي تكتب: "جونسون" وبداية السقوط!
وقد عرفت الأجيالُ السابقةُ أن الثانوية العامة وهمٌ كبيرٌ وتعلمنا الدرسَ بعد سنوات ضاع بعضها في تلبية رغبات غيرهم، أو نظامٍ تعليميٍّ قائم على الحفظ وبعيداً كلَّ البعدِ عن سوق العمل. ولكنْ سرعان ما ننسى ونرتكب نفس الحماقات مع أبنائنا بدعوى أننا نعرف مصلحتهم أكثر منهم.