ياسر حمدي يكتب: مجمع وادي النطرون.. والإنتقادات الدولية للسجون
ADVERTISEMENT
إنتقادات دولية عدة كانت تواجهها مصر في الفترات السابقة بسبب أوضاع السجون، وكانت دكاكين حقوق الإنسان المنتشرة في العديد من دول العالم والتي عادةً ما تستخدمهم كأداة ضغط على الدول الأخرى، كانت في الغالب تسن سكاكينها على الحكومات المصرية بحجة حقوق السجناء وحقوق الإنسان.
لنجد الرئيس السيسي يقول: «حتى لو إنسان أذنب وبنعاقبه، مش هنعاقبه مرتين.. هنعاقبه مرة واحدة بإنه يقضي عقوبة في السجن»، في مداخلة هاتفية منذ أسابيع على القناة الأولى مع الإعلامي يوسف الحسيني، ويؤكد خلالها ويتوعد فيها بتوفير حياة آدمية للسجناء وتطوير السجون المصرية، مستخدمًا لفظ «أمريكي» دلالة على جودتها وحسن معاملة نزلائها، لنتفاجئ وبعد عدة أيام من المداخلة الهاتفية بإفتتاح أكبر مجمع للإصلاح والتأهيل بوادي النطرون.
والسؤال هنا ما هي منهجية وقواعد ومعايير حقوق الإنسان في إدارة السجون؟.. الهيئات والمنظمات الدولية تجيب وتتحدث عن معايير عامة في السجون، والأمم المتحدة تقول إن هناك أكثر من ١٠ قواعد ومعايير يطلق عليها معايير «نلسون مانديلا»، لابد من توافرها في السجون من أول المعاملة الإنسانية إلى العلاج والتغذية والتواصل مع أهله نهايةً بكل ما يحفظ إنسانيته ويعيد دمجه في المجتمع.
ودوستويفسكي قال: «يمكن الحكم على درجة الحضارة في المجتمع من خلال دخول سجونه»، ونيلسون مانديلا أيضًا يتفق مع هذه العبارة تماماً حيث قال هو نفسه «لا أحد يعرف حقًا أمة حتى يكون داخل أحد سجونها»، لذا يجب ألا يتم الحكم على الأمة من خلال معاملتها لأعلى مواطنيها، لكن على معاملتها لأقل مواطنيها، وأصبحت القواعد المعتمدة لمانديلا مرجعية يقاس على أساسها إثبات أداء الحكومات لحماية حقوق السجناء أو النزلاء وهو اللفظ الجديد الذي تستخدمة الدولة المصرية، ووزارة الداخلية تقول إنها تطبق كل ذلك.
وفي مشهد إفتتاح أكبر مجمع سجون أو كما يطلق عليه مجمع الإصلاح والتأهيل بمصر في منطقة وادي النطرون، والمجهز بوسائل حديثة ومريحة تضمن الكرامة للنزلاء، ويعمل على تطوير منظومة التنفيذ العقابي وفقًا لثوابت الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخراً، نجد وفي واقع الأمر أن مصر بذلك تطبق وبكل تأكيد المعايير الدولية المعتمدة ومبادئ مانديلا، وتحقق مقولة ودوستويفسكي الشهيرة، وتستكمل بناء حضارتها العريقة الممتدة عبر الزمان.
والواضح لنا جميعًا أن مصر مؤخراً تعطي لملف حقوق الإنسان أهمية قصوى حتى وصلت فيه إلى مراحل متقدمة جدًا أبهرت العالم، ولعل أهم الخطوات الرائدة في هذا الملف كانت إطلاق الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وتلاها قرار الرئيس التاريخي بإنهاء حالة الطوارئ، والإفراج عن العديد من المحبوسين، ومن قبل شكلت لجنة بمؤتمر الشباب لمراجعة أوضاع المحبوسين على خلفية الحريات والرأي، وأن ترفع قراراتها للرئيس، والذي قام بدوره بالعفو عن ما تقدمت به اللجنة له، ثم إفتتاح هذا المجمع العظيم الآن.. لكن الغريب والمثير للدهشة هي موجة الانتقادات الموجهة عبر مواقع التواصل الإجتماعي لهذه الإنجازات الواضحة في هذا الملف الحيوي، لنجد أنفسنا أمام سؤال مهم أليست هذه مطالب هؤلاء المنتقدين من قبل؟، ولماذا هذه الإنتقادات لنجاحات من المفترض أنهم جزء أصيل منها؟، والأغرب أنهم على يقين بموقف العديد من الدول الكبرى التي كانت توجه إنتقادات شديدة للحكومات المصرية في فترات سابقة وطالت حتى الآن تجاه أوضاع السجون المصرية.
ولم يغفل النشطاء والمدونون الحدث، فتلقفوه بشيء من التندر والكثير من التحليل والنقاش حول أوضاع السجون والحريات العامة في مصر، وقوبلت تلك الخطوة بسخرية البعض ممن رأوا فيها دليلًا على «تناقض الدولة المصرية التي تعلن من جهة عن إستراتيجية وطنية للنهوض بحقوق الإنسان وتمضي من جهة أخرى في تدشين سجون جديدة»، بل وأثار هذا حفيظة المنتقدين عمال على بطال ممن وصفوا تلك الإجراءات ب«الشكلية والاستهلاكية».
والحقيقة فإن تدشين سجون جديدة ومتطورة سيعمل على توفير بيئة ملائمة لتأهيل المساجين وإعادة دمجهم في الحياة العامة، وبذلك فإن مصر تطبق بإحترافية شديدة قواعد ومعايير مانديلا العشرة المتفق عليها دوليًا، وصولًا لإستراتيجية مصر لحقوق الإنسان، والتي أشادت بها جميع دول العالم بما فيهم الداعمة للمنظمات الحقوقية المشبوهة، التي كانت حلم طال إنتصاره وتحقق، بل وهم أنفسهم من طالبوا بذلك، والملفت للنظر أن حالة «الرفاهية» التي يقدمها مجمع السجون الجديد من أهم حقوق السجناء والنزلاء التي تصدعت رؤوسنا بالمطالبة بها، فلماذا إذن كل هذه الإعتراضات؟ وهذا الكم من السخرية؟.
الواقع يقول علينا أن ننظر إلى الإيجابيات التي تتخذها وزارة الداخلية المصرية والدولة بشكل عام بل وتلبي مطالب المغرضين التي سبق وطالبوا بها الحكومة ومن قبلهم الدول الغربية والداعمة لدكاكين حقوق الإنسان المسيسة بعين الحذر والتفاؤل، فبصراحة الدولة تسير في هذا الملف بخطى ثابتة أبهرت الغرب أنفسهم، فمن الإنجاز الحقيقي تغيير مصطلح قطاع السجون في الوزارة إلى قطاع «الحماية المجتمعية»، واستبدال كلمة «السجين» ب«نزيل»، وهذا دليل على إتباع مصر لنهج وفكر جديد يحافظ على كل قواعد ومبادئ ومعايير حقوق الإنسان، وبدأت في عهد جديد.
وفي واقع الأمر فإن مصر قررت فتح الشباك لمواجهة رياح وعواصف الإنتقادات والسلبيات والمشاكل والتحديات الموجهة لها منذ عقود، مهما كان حجمها ونوعها، ولن تغلقه أبدًا، وأخذت على عاتقها تحمل أخطاء الماضي والعمل على حلحلة هذه الإنتقادات والسلبيات من أجل بناء مستقبل يليق بالمصريين ويرسي دعائم وقواعد الجمهورية الجديدة التي بدأت تتحقق بالفعل، لكن التركيز على السلبيات فقط وتجاهل الجانب الجيد من المبادرة التي تمنح السجين، خاصةً المتهمين في قضايا جنائية «فرصة حياة جديدة» أمر مخالف حتى لمبادئ حقوق الإنسان.
لكن الحقيقة على قطاع الرعاية المجتمعية - وهو الاسم الجديد لقطاع السجون - أن يعي جيداً أن «المشكلة لا تتعلق بالسجون أو تطويرها فقط بل في العقلية التي تدار بها السجون» فهذا الصرح العظيم الذي يبدوا على مرافقه أنها فندق من ذوي النجوم الخمس، فالزنازين واسعة مليئة بالأَسِرَّة والملاءات النظيفة، معلَّقة على جدرانها شاشات «إل سي دي» الحديثة، تعرض شتى أنواع التثقيف والترفيه، والمكتبة ضخمة تعج بألوان الكتب، يقرأ فيها المساجين ما راق لهم من الأدب والعلم.
ونجد مطبخاً فيه ما لذ وطاب من الطعام الذي يمثّل تعيين المساجين، مع ساحات لتناول الطعام، مجهزة بأعلى معايير النظافة والصحة، أما مستشفى السجن العظيم، فهو صرح يزخر بأحدث الأجهزة في التخصصات الطبية جميعها، كلها تحت أمر المسجونين، وخدمةً لصحتهم، وإن رغب المسجون في تطوير نفسه، فالفصول والبرامج التدريبية والحرفية متاحة مع مدربين على أعلى مستوى.
ومع وجود غرفة الرسم، ليمارسوا هواياتهم، ويخرجوا طاقاتهم الإبداعية، وإن كانت عندهم رغبة لتنفيس المزيد من الطاقة، فملاعب كرة القدم، والسلة، وغيرها، مفتوحة الأبواب، وهذا ما يحتاجه السجين أو النزيل من حقوق تطبيقاً للمعاير الدولية في هذا الإطار.
أما قاعات الزيارة، فحدّث ولا حرج: أرقى التصميمات وأوسعها، مع معاملة حسنة للأهالي، من وقت وصولهم حتى انتهائهم من زيارة ذويهم، وهذا مايريده المواطن العادي من تسهيلات في زيارة زويهم، وهذا وحده ليس كافيًا لتطبيق معايير حقوق السجناء، فمع هذا الإنجاز العظيم من التصميمات والمباني بأحدث النظم الحديثة وأعلى معايير الجودة والتكنولوجيا في الإنشاء.. وجب وجود العنصر البشري والعقلية المدربة والمتطورة أيضًا في التعامل مع هذه التكنولوجيا وتغيير العقلية القديمة في إدارة السجون حتى تتواكب مع قطاع الرعاية المجتمعية، حتى تكون التجربة الرائدة والفريدة خير رد على هؤلاء المضللين للواقع والمشككين دائمًا في الإنجاز.
في حقيقة الأمر، لا نكره أبداً أن يتمتع السجناء بهذه الفرص الجميلة للإصلاح، وإعادة التأهيل، بل نتمنى من قلوبنا أن تكون مؤسسة السجون على هذا القدر من الكفاءة والكرامة بعد هذا التطوير الهائل، نتمنى ضمان الحقوق الإنسانية في المعيشة، والطعام، والنوم، والعلاج، والتعليم، والمعاملة، داخل السجون، لمن يقضي عقوبةً على جريمة ارتكبها، وأن يجد مساحات للتطوير والتغيير، تمكّنه من إيجاد معنى جديد يعينه على الاندماج في الحياة، بعد الإفراج، كمواطن سوي له فرصة في سوق العمل، وإن كانت جميعها ممثلة في المجمع الجديد، لكن الأهم من كل ماسبق هو العنصر البشري المدرب الذي يحافظ على المعادلة الصعبة وهي تحقيق العقاب لكن دون الخلل بمبادئ ومعايير حقوق الإنسان في آن واحد، فهل ستنجح وزارة الداخلية في هذا الأمر كما نجحت في بناء صرح عالمي غني بكل مقومات النجاح؟، هذا ما سنراقبه عن كسب في الأيام والفترات القادمة.