ألفة السلامي تكتب: مارينا بتاعنا ومارينا بتاعهم
ADVERTISEMENT
ليس من المألوف أن يكتب شخص رسالة وداع لأهله وأحبائه قبل الموت لكن البعض يستشعر دنوّ فصل الرحيل ويركب سفينة الوداع بلا شراع مبكرا فيخط وصيته وهو على مشارف النهاية. هذا ما فعلته الطفلة مارينا، كتبت رسالة لا تخطر على بال وتنبأت فيها بوفاتها عقب صراع مرير مع مرض السرطان.
وانتفضت لها قلوب المصريين تأثرا بها نظرا لصغر سنها و"كبر" ما فكرت فيه، فهي لم تتجاوز أصابع اليد في عمرها لكنها عبرت عن تفاصيل تجول بذهن الكبار، وهذا ما زاد في أوجاع أسرتها وأحبائها على فراقها بعد أن هزمها السرطان الخبيث وودعت الحياة تحت ضغط آلامه المبرحة. مارينا كانت حتى في الرحيل جميلة ومتفردة، كتبت وصيتها منذ شهرين تقريبا على صفحة كراستها بخط طفولي؛ وجدها أهلها بعد وفاتها وقالت فيها إنها تسمتع إلى صوت خفيّ يخبرها بقرب أجلها وأوصت والدها "وصايا الكبار" بأن يلبسها الكفن بنفسه وألا يلقي عليها نظرة الوداع ويشارك في غسلها ويحمل نعشها إلا أخوتها ومن أحبها. واللافت كذلك أنها ناشدت أمها ألا تحزن وألا تلبس السواد وألا تذرف الدموع عليها في "المدافن"، وكأنها تترجاها "أي دمعة حزن لا!" كما يقول عبد الحليم حافظ.
مارينا كان عندها إصرار ألا يغطي الحزن بيتها وقالت لهم "شغلوا التلفزيون واعملوا كحك وقُرص ووزعوها". وهكذا "اختارت الدنيا المعاد واختاروا اسمى في الميلاد لا كان بإيدى بدايتي ولا بإيدي نهايتي" كما يقول العندليب.
وأصيبت مارينا منذ أربع سنوات بسرطان أسفل اللسان وهو ورم نادر جداً حيّر الأطباء، وحاولوا إنقاذها من بين براثنه بعدة عمليات جراحية وجلسات الكيماوى لكن دون جدوى حيث اشتد المرض عليها فتركت مدرستها وأقعدها السرطان في السرير دون حركة خلال الشهور الستة الأخيرة... "موعود معايا بالعذاب ياقلبي، موعود ودايما بالجراح موعود".
وعن آخر كلمات الطفلة، ذكر الأب أنها اعتذرت منه للمشقة وتدبير المصاريف الكثيرة و العذاب الذي سببه مرضها لأسرتها، قائلة: " سامحني يا بابا تعبتك معايا". وأكد الأب أن حجم الورم الذي أصاب طفلته لا يقوى أحد على تحمله، ومع ذلك كانت شديدة الحساسية حتى تكتم أوجاعها ولا تسبب لهم أذى، إذ كانت "تُبقي باب غرفتها مغلقا خوفاً من أن يصل أنين أوجاعها وآلامها إلى مسامع أفراد عائلتها".
أثارت قصة مارينا الحزن لدى عدد من المتابعين خلال الأيام والساعات الماضية وكذلك وصيتها المؤثرة.
وفي مقابل أوجاع مارينا وأهلها وأحبابها، كانت "مارينا" الأخرى صاخبة في حفلاتها، تشغل بنميمتها أحاديث المصريين على الشواطىء بين زفاف فلانة ابنة رجل أعمال أقام الأفراح والليالي الملاح وأرسل طائرته الخاصة لجلب الفنانة والراقصة الأجنبيتين، ناهيك عن فساتين الزفاف المستوردة المرصعة بالماس والأحجار الكريمة وكأن العرس مزاد تنافس به العروس زميلاتها ممن سبقنها إلى فرحة العمر. وبدلا من فستان واحد كما تعودنا أصبحت العروس ترتدي أكثر من فستان وتدفع مبالغ باهظة بالدولار لاستيرادها، وبدل الحفلة الواحدة تتعدد الحفلات والموائد والمآدب بما لذ وطاب وغالبيته مستورد من إيطاليا وسويسرا وغيرها حسب الرغبات والمذاقات.
ومارينا لم تعد هي الموضة.. بل مراسي هي الموضة الآن والهضبة لم يعد يكفي بمفرده بل معه المطربة الأجنبية، والفيلات ليست الموضة حاليا بل القصور هي عنوان الفخامة.
ولا يجب أن يفهم من هذه التعليقات نقدا وتدخلا في شؤون الغير وفرحتهم وأموالهم.. هم أحرار ينفقون ما يريدون ماداموا يدفعون ضرائبهم، بل أكثر من ذلك: هذه سياحة يمكن الترويج لها حتى يأتي أغنياء المنطقة العربية ويُحيون حفلاتهم في الساحل الشمالي. غير أن ما أقصده هو أن تكون حفلات أثرياء المصريين في إطار الخصوصية وأن لا ينسوا أننا في مجتمع مازال غالبيته من الفقراء وهناك ملايين العائلات وأبنائهم وبناتهم لا يستطيعون إكمال نصف دينهم وقد يستدين أولياؤهم ويُسجنون ويُصبحون من الغارمين حتى "يستروا" بناتهم!
بالإضافة إلى الحفلات الصاخبة التي تطغى على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت هناك قضايا تافهة تشغل البرامج والجلسات بعيدا عن القضايا التنموية الحقيقية؛ من أمثال ذلك خناقات هذا المطرب ومناوشاته التي لا تنتهي وملاحقات الكاميرا لفستان هذه الممثلة و"شورت" تلك المطربة وطلاق تلك الفنانة.. ناهيك عن معارك الأهلاوية مع الزملكاوية.
وسط هذا الإسفاف هناك طفلة جميلة اسمها مارينا عانت من سرطان في الفك وماتت بهدوء وتركت لأهل مارينا ومراسي صخب حفلاتهم و "هوتشورت" فنانتهم ونميمة الإعلاميين والرياضيين.
فلتنشغلوا بـ "مارينا بتاعتكم" أما الشعب فاتركوه لـ "مارينا بتاعته" ولديه هموم ومشاغل مشابهة لملايين مثل الطفلة مارينا؛ وللأسف أهل مارينا في وادي بينما الحكومة في وادي آخر مع ناسها يريدون الدواء والعلاجات والمستشفيات والتعليم الجيد وفرص العمل و التنمية لمصر كلها والمصرييين. ياريت نستيقظ يوما على واقع مختلف يكون فيه الإعلام أكثر التزاما بقضايا ناسه ووطنه يعبر عنها ويناقشها ويساهم في حلها. لعله حلم جميل ونظل نعيش بأحلامنا!