ألفة السلامي تكتب: «فرعون» الرواية المصرية
ADVERTISEMENT
زغردت خلجات روحي فرحا بجائزة الدكتور محمد المنسي قنديل التقديرية ليس لأنه الأحق بين الذين فازوا و لكن لأن الجوائز تذكّرت الموهبين.
أشعر بأن انحيازي لهذا الكاتب الموهوب لا يشوبه أي تردد لأني عشت مع قصصه ورواياته مراحل عمري جميعها و كأنه يتابعني في أطوار الطفولة والصبا والشباب والكهولة.
ربما لأن عوالم الطفولة تعانق سمواته المفتوحة، فطار بي ابن "غزّال" المحلّة إلى خيال كنت أنسجه مع أبي وهو يغزل الحرير و يفكّ التشابك بين خيوطه ثم يرتّبها ليطرّز قطعة النسيج كلوحة فنية بديعة، ومعها كان يغزل الحكايات و يطرّز الخيال بمعاني الدهشة و الفرح و البهجة و الشغف.
أتذكر خلال إحدى رحلاتي للكويت في التسعينيات لتغطية الانتخابات البرلمانية، زرت نادي القصة بدعوة من إحدى عضواته و تصادف مناقشتهن لمجموعات قصصية للمنسي قنديل، منها "من قتل مريم الصافي" و"احتضار قط عجوز" و"بيع نفس بشرية" و أطلقت عليه عضوات النادي آنذاك لقب "فرعون الرواية المصرية". أستحضر اليوم هذا اللقب بينما يُتوّج في بلده مصر بالجائزة التقديرية و أراه يستحقه عن جدارة.
عادت بي الذاكرة إلى لقب فرعون الرواية خلال رحلات عمل إلى دول حوض النيل عندما كنت أتأمّل النهر العظيم الساحر، العنصر المشترك و الموّحد بين تلك الدول في القارة السمراء، و أحتار في أمره حيث يبدو متقلب المزاج كما حيوانات الغابة: عاطفيا حنونا أحيانا غاضبا ماردا أحيانا أخرى. و أتذكر على الفور نفس الشعور الذي تملّكني وأنا أقرأ وصف المنسي قنديل للنيل في روايته "يوم غائم في البر الغربي"، عندما يقول: " كان النيل نهرا من أغرب أنهار الدنيا... ينحدر من تلال أفريقيا البعيدة، مهيبا كملك، لا يأبه بالغابات الكثيفة، ولا بحرقة الصحراء الممتدة... و يمضي متفردا مثل شاعر حزين وسط مجاهل الصحراء.. لا يهدأ ولا يأخذ سمة الوقار إلا عندما يلمح رؤوس النخيل في جنوبي وادي مصر، أقدم نخيل عرفه بشر، يقف مزهوا على ضفاف النهر منذ آماد بعيدة، غرسه الفراعنة و شذبه الأقباط و أكل من بلحه جنود الرومان، وعرف الفاتحون العرب أسرار فسائله فنشروها... و يصعد النخل كأذرع الآلهة القديمة، جذوره في رطوبة الطمي، بينما رأسه في وهج السماء... وتنفرط عقود الحمائم كي تملأ عيونها من مشهد المياه الزمردية قبل أن تؤوب إلى أعشاشها في كل مساء".
ربما لم ألتق في حياتي فرعون الرواية المصرية عاشق النيل، لكني ألتقيه على الدوام منذ الصغر وحتى الكبر محافظا على نفس الدأب في توصيل فكرته و إبداعه... ألتقيه في أبطاله وبطلاته وهم يغازلون أحلامي و رغباتي، و يعبرون عن حيرتي و قلقي و إحباطاتي و شجوني، بل يبثهم شذرات من روحه و روح أجيال في مختلف الأعمار و الأذواق و كأنه يغزل لوحات مدهشة على نوله ليفرح بها قراؤه ويتشبثوا بأحلامهم.
عرفت المنسي قنديل حكّاءا بامتياز يسكن مخيّلة الأطفال بقصصه البوليسية في مجلة ماجد التي تربّت عليها أجيال عندما كانت مجلاّت الأطفال تساهم في التربية والتحفيز و قبل أن يسرقهم "الموبايل" و إخوانه من أجهزة العولمة و تنميط الذكاء. وقد أحبّ أطفال ذلك الزمان العديد من العظماء الذين كتب المنسي قنديل عن طفولتهم، و أضاء مساحات كانت مجهولة عن جمال عبد الناصر و طه حسين وعباس العقاد، و قدماء قبلهم مثل صلاح الدين الأيوبي و الحسن بن الهيثم، و شخصيات أجنبية مثل توماس إديسون و المهاتما غاندي.
وتابعت المنسي قنديل بعد ذلك في مجلة الدوحة لفترة قصيرة ثم مجلة العربي لفترة طويلة تقارب العقدين، و كان جيلي من الشباب العرب آنذاك ينتظرون مجلة العربي على شوق و يسبحون في بحور "قنديل" شرقا وغربا من خلال "استطلاعات العربي" حيث يسافرون بخيالهم مع تلك الرحلات التي تغذي عقولهم و أرواحهم و يصافحون الإنتاج الثقافي من كافة الشطآن على امتداد الوطن و خارجه.
من أحب الروايات إلى قلبي روايته الأولى "انكسار الروح"، فلها طعم البدايات المتفرّدة، كتبها وهو في صدر الشباب، وهي بالنسبة لي سيرة حقبة محمّلة بالأحلام و الإحباطات لأجيال عاشت مع ثورة يوليو و شحنت مشاعرها بانتصارات تلك المرحلة و انتهى بها الأمر إلى غربة اجتماعية لا حد لها بعد هزيمة قاسية في يونيو 1967.
قليل من الكتّاب نصادفهم و نصدّقهم فنصادقهم؛ و المنسي قنديل من المتفرّدين بهذه الموهبة يدخلك عالمه و لا تنساه بعدها أبدا بل تظل تنتظر اللّوحات الموالية التي ينسجها هذا "الصّنايعي" في أنواله!