ألفة السلامي تكتب: مصر ترفض سياسة الأمر الواقع
ADVERTISEMENT
يتبارى المصريون على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا للدعوة إلى التعجيل بشن ضربة عسكرية ضد إثيوبيا بسبب تعنّتها في المفاوضات وتمسكّها بمواعيد البدء بالملء الثاني لسد النهضة على الرغم من اعتراض كلًا من مصر والسودان، الدولتين المعنيتين بهذا الملف الشائك.
الرأى العام وحالات القلق
ويبدو الرأي العام المصري في أشد حالات القلق والتوتر حاليا بسبب الخطر الذي قد يهدّد استقراره من جراء نقص المياه المتدفقة إليه من إثيوبيا، في ضوء رهان أديس أبابا على فرض الأمر الواقع وتشغيل السد، لذلك يضغط الرأي العام على صانع القرار في مصر للتصعيد ورفض سياسة الأمر الواقع مما يعطي القيادة السياسية أريحيّة ومشروعية إذا ما اضطرت إلى توجيه ضربة عسكرية ولم تجد بديلا عنها!
ولست من القلقين على صدور القرار وصبغته أو توقيته في ضوء ما تعلمناه حول تاريخ السياسة الخارجية المصرية وما تتميز به الدبلوماسية الهادئة وعلاقاتها بدول الجوار، حيث أن المبدأ الذي يحكمها وتسير عليه دائما هو الالتزام بعلاقات طيبة يسودها حسن الجوار وإعلاء مصلحة الشعوب في التعاون المثمر بما يحقق مكاسب لجميع الأطراف ويعزز التنمية والعيش في سلام وأمان.
علاقات استراتيجية
وتنطبق هذه القاعدة على العلاقات الثنائية التي يأتي ترتيبها في الصدارة وتوصف بالاستراتيجية، مثل علاقة مصر مع الدول الإفريقية المتشاركة في نهر النيل بفرعيه الأبيض والأزرق، ليس فقط لأنها دول صديقة ومترابطة المصالح ولكن أيضا لأن نهر النيل هو شريان الحياة الرئيسي لمصر وله الفضل منذ القدم في بناء حضارة مميّزة بين الحضارات الإنسانية لدرجة أن قدماء المصريين كانوا يقدسونه لأنه يروي أرضهم وحوّلها إلى واحة خصبة غنّاء وسط صحاري ممتدة قاحلة وجافة.
ومن هذا المنطلق فإن مصر لم ولن تعارض التنمية في إثيوبيا، ولم تعترض على إنشاء السد لأغراض تنموية وتوليد الكهرباء، لكنها تعارض سعته التخزينية وسنوات ملء السد، وتطالب بأن يتم الملء على سبع سنوات حتى لا تتأثر هي والسودان بحجب المياه عنهما وتداعيات ذلك على الزراعة والطاقة والاقتصاد بشكل عام؛ كما أنها تطالب بوضع آليّة يتم الرجوع إليها في صورة وجود خلاف، لكن أديس أبابا تصر على موقفها المتعنّت وتقتصر سنوات الملء إلى ثلاثة فقط دون حتى استكمال الدراسات البيئية أو الفنية ودون الإنصات والتجاوب مع آراء العلماء الذين حذروا من مغبة الملء في مدى زمني قصير ضاربة بعرض الحائط كافة الرؤى الدولية والقوانين والأعراف المنظّمة لاقتسام مياه الأنهار، ومنها قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، خاصة في موضوع حيوي مثل المياه.
لستُ قلقة
ولمن يتساءل حول السرّ في عدم قلقي أو يستغرب من هدوء الموقف المصري لحد الآن في هذا الملف الحيويّ، من الضروري التذكير بأن مصر- كما أسلفت- تسير على نفس نهجها الدبلوماسي الرصين في البحث عن حلول مناسبة وبذل كافة الجهود لبلورتها وعدم إثارة مشاكل أو صدمات، ولعل ما واجهته مصر من مشكلات خلال السنوات الأخيرة هددت أمنها واستقرارها، سواء على حدودها مع دول الجوار مثل ليبيا و غزة و السودان أو حتى مع دول المنطقة مثل قطر وتركيا، كانت خير دليل على أن القاهرة لم تدخل دوائر التصعيد والمصادمات رغم الاستفزازات المتكررة بل تحلّت بالحنكة وبحثت عن شركاء وليس أعداء للتوصل لحلول إيجابية تعزز فرصها وفرص الأطراف الأخرى في المستقبل المشرق الذي تراهن عليه وليس على سواه. وهذا هو دور الدول القوية والمركزية في محيطها التي تراهن على مكانتها وتقود جيرانها وشركائها في إخماد النزاعات والحرائق وليس إشعالها. وعلى نفس هذا المنوال، تحاول مصر إلى آخر مدى البحث عن فرص لحل المشكلة مع إثيوبيا دبلوماسيا، وعندما فشلت المفاوضات بسبب التعنت المتكرر من طرف أديس أبابا بحثت عن بدائل مثل الوساطات الدولية واللجوء إلى المحافل الأممية. كما أنها مازلت تصعّد دوليّا دبلوماسيّا في محاولات أخيرة لتجنّب الحلّ العسكريّ والانحياز لصداقة تاريخيّة تربط الشعبين والبلدين هي بالتأكيد أفضل وأثمن كثيرا من عدائهما. لكن حذاري أن تفهم القيادة في إثيوبيا أن مماطلتها في التوصل لاتفاق يكسبها وقتا لصالحها لحين تشغيل السد بفرض الأمر الواقع.. لأن عنتريّتها حينئذ سيقابلها ما يناسبها من ردود حاسمة في الدفاع عن حق مصر في حصتها من مياه حوض النيل منذ الأزل. [email protected]